محمد ناصر الأسمري
أصدر الصديق الأستاذ الدكتور علي عبد الخالق القرني مع انطلاق معرض الرياض الدولي للكتاب 2021 كتابه الأول الذي أعطى له عنوانًا لافتًا وجاذبًا حيث جاء العنوان السيل: سيراوية.
السيراوية كلمة نحتها الرجل ببراعة حاذقة، ستكون له منصة محتفظة بحقوق الإبداع بعيدًا عن حقوق ملكية الدار الناشرة للكتاب كما أظن.
قال د.القرني عن السيل في عبارة موجزة على الغلاف الأخير (تفتحت عيناي على ضفاف الوادي، هناك حيث الوادي رمز الحياة، وفيه تجري الأرواح، ومنه تتنفس الرئات، معه تسيل الأمنيات. الكل ممن تذوب عيونهم وافئدتهم فيه، يسألونه التوقف، ولو للحظات، ليعانقوه، وليتلو عليهم الخطوة التالية، وينبئهم بالحب الجديد، لكنه لا يأبه بأسئلتهم، ويمضي إلى حيث أمر، حاملاً معه عبق الأرض، وأماني أهلها، ليضعها في البعيد هناك الأفق، حيث يعانق نداءات الحياة الفطرية، وتحتضن الأرض تهافت الندى على مفاتنها. لكنه لا يأبه بأسئلتهم، ويمضي إلى حيث أمر، حاملاً معه عبق الأرض، وأماني أهلها، ليصبها في البعيد.. هناك حيث الأفق يعانق نداءات الحياة الفطرية، وتحتض الأرض، تهافت الندى على مفاتنها).
هذا نص فلسفي عميق الدلالات والمعاني مستترة وظاهرة، لها أكثر من ضمير في اللغة، ولا ضامن لها في مظان مسارب الحياة ومعارك البذل والعطاء والسعادة والشقاء.
سيراوية، سيل من الرجال والنساء والذكريات تلاطم بها السيل كل مرة.. لكن رحمة الله وسعت كل شيء، وغالب الصبي، (في لغة ولهجة الجنوب تعني الغمر الذي ما زال طي العود والمتوثب لمراحل الرجولة).
غالب الصبي القرني علي بن عبد الخالق كل محاولات الغرق ونجا في محاولات واسعة الثراء والإشراق من خلال توثبه لطلب العلم ومكابدة السروح والمراعي في جبال وأدوية بلاد بلقرن وبيشة والرياض والطائف وأمريكا. بيشة التي يراها الجنوبيون أرض التمر والعيشة والتجارة والثمار والاستثمار وملتقى العابرين لنواحي الوطن.
جرفت السيول علي لمغادرة سبت العلايا، إلى عوالم أكبر لطلب العلم بدافعية من والده -رحمه الله- سواء في المدرسة الابتدائية أو في الدراسة في العطلة الصيفية ليلقي به بعيدًا عن حضن الأم وحنانها، وما كان دافع الأب سوى تقوية عزيمة الصبي ليبلغ سني الوعي والرجولة.
ظل قلب علي عبد الخالق أسير حب بيشة وأهل بيشة، وكان له مواعد تواصل واتصال ببيشة فيعود إليها ليس راجلاً متنكباً صعود وهبوط جبال الصلبات المخيفة وغيرها من جبال المطلا ووادي عليان ذا الروائح الزكية التي تعطر المسارات ليلاً ونهاراً.
عاد علي إلى بيشة ليس راجلاً، بل متكوماً مع خلق كثير من الربع المسافرين إلى بيشة في سيارة البريد، وحينها سرق فراشه والمونة التي زوته بها أمه وأبوه.
كان راعياً للغنم، لكنه حافظ عليها لصالحه وراعية كان ترعي معه غنمها وتراعيه وترعاه، رقابة ودراية وعناية برجل يخطو في مسارات التكوين الجسماني بالرغم من أنه ما زال غضاً عاطفياً، وإن كانت بوادر الأشواق تلسعه أكثر من أشواك المراعي، فقد نسي الغنم والرعاة، ونسيته الراعية، ولذا فهو يقول ص 47 من كتابه (إن العشق وراثي في البوادي، إن الجنون فيها أرقي من العقلانية في سواها) ولم يستطع أن يقول كما قال جدنا القديم:
«صغيران نرعي إلبهم يا ليتنا أننا إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم»
انخرط علي عبدالخالق في مسارات تعليمية تقليدية رسمية وأهلية، وتعايش مع أناس رعوه تقديرًا لوالده الذي له باع في الصداقات خارج نطاق قبيلته، لم يسترعه الراعون له راعياً للغنم ولا أبل ولا بقر؟
بكى كثيرًا من التغريب الذي أخذه بعيدًا عن أهله وأمه اللاهفة عليه، التي لا تملك رداً كلما لأبيه.حيث أصبح بعيداً، لذا قال علي ص 58 (بكيت من البكاء أمره، ومن النشيج عصيه، وكدت أحس بقلبي ينخلع، لولا بقية من أضلاع راجفة في هذا الصدر الصغير الغض).
تعلم علي في بلاد الغربة في بلاد غامد في المدرسة السلفية، وبات من حرصه وكسبه التعلم أن صار يطلب منه إمامة المصلين، وذلك حين استفاد من معاشرة المدينيين، لكنه لم ينجرف مع من كان متطرفاً.
ارتحل علي للرياض ليدرس المرحلة المتوسطة وعاش معتزباً وثاوياً في الليل والنهار متأملاً لا متألماً، لما وجد ابن عم له وعزوة من قرانيه.. ثم تراوحت مسيرته ومساراته إلى بيشة والرياض ثم يستقر به المقام في الطائف التي وصفها بأوصاف العاشق المتيم بالطائف إنسانًا وأرضاً. حين قال ص 122- 124
(الطائف وردة الأرض، وورود واردية، وراشمة أردية النبوة، وحنين الأرض للوفاء، الطائف ذراع يتوسطه المتعبون، وصدر يأوي إليه الوالهون).
تنقل في السكن العزابي من حي الشهداء الشمالي والجنوبي سامراً ومسامراً في حفلات الأفراح ومراد الشعراء.
سطر أبو بدر مغامرات كثيرة في الطائف بدافع المراهقة وتصورات العشق لأي أنثى متخيلة تناديه لمسار العشاق وفتنة الهوى.
تورط علي وزميله القريب في ادعاء معرفة في ذبح أضحية لجارة عجوز استعانت بهما لأنها الرجلان الوحيدان في حارتها من العزاب المحترمين، فكان ما كان من تشويه للأضحية. لعدم الخبرة.
تحولات شتى مضنية ومشقية، نال بها القرني متاعب ومصاعب ومشقة بسبب شغفه بالدراسة.. متحولاً من معهد المعلمين لدراسة الثانوية ثم التحول للجامعة محققًا نبوغاً متصلاً وتفوقًا.. لكن الطمع والطموح ظلا ملازمين له في الارتقاء للمعالي، فشاغب وناضل في تحدي المسافات، لكنها تحملها فحاز الابتعاث إلى أمريكا دارساً اللغة الإنجليزية عامين ليعود معلمًا لغة إنجليزية في سبت العلايا ثم بيشة، لكن عيشه في أمريكا عامين أوقد جذوة البحث عن الذات، فبعث مرة أخرى لأمريكا لدراسة الماجستير ثم الدكتوراه ليعود معلمًا علمًا في تخصص القياس ثم التحول لمناصب عالية في وزارة المعارف، ثم مديرًا عامًا لمدارس المملكة ثم مديرًا عامًا لمكتب التربية والتعليم لدول الخليج العربي، فأبدع عملاً وترك آثاراً بالغة، نال تكريم قيادة الوطن ووسام رفيع من سلطان عمان.
استقر الحال بأبي بدر في الطائف في دورات تعليمية للعلم وللهوى والجوى، فكان القرار من ابن عم ليطرق باب الخروج من حياة العزوبية لحياة الزواج والاستقرار. فكان أن حاز الزواج من ابنة جارنا في حي الشهداء الجنوبي اللواء عبدالهادي القرني الذي كان له عمارة جميلة قرب دار والدي رحمه الله.
أورد القرني أحداث مر بها الوطن والعالم من موت الملك فيصل -رحمه الله- واحتلال الحرم المكي من زمرة البغي والعدوان، وثورة الخميني، أحدات سببت نكدًا على الرجل.
أشياء طريفة عجيبة ومؤثرة كانت رابطة بيني وبين أخي الدكتور علي عبد الخالق: حب الطائف التي كانت لي مرتع الصبا والجمال في كل شيء وأجمله بعلتي أعزها الله التي يبدو أنها كانت زميلة مهنة لبعلة علي.
ثم دراستي في المتوسطة الثانية بالرياض حيث درس علي، ثم دراستي في أمريكا ومولد ابني بدر كم كان مولد بدر علي عبدالخالق.
شكرًا لأستاذي علي بن عبد الخالق القرني علي السيراوية التي طرحت وأخرجت لنا زوايا ومرايا متنوعة من ليالي وتنامي المعشر والمعاشرة.
ولعل براعة القرني في مغالبة جره للغرق في سيل بيشة إلى غيره من السيول هي التي تغلب عليها وغالبها عصامياً عصيًا على الاستسلام بل برع في السير وسط أمواج من السيول من الأمطار والبشر.