د. محمد بن إبراهيم الملحم
الإبداع التعليمي هو ما يميز مهنة التعليم عن غيرها من مهن، فالطبيب والمهندس والمحاسب والمحامي مثلاً لا يمكنهم التحليق كثيرًا في الإبداع لمحدودية عملهم في نطاق ما نصت عليه الكتب والمعايير القياسية لعملهم standards ، بل يكون الاجتهاد أحيانًا مرفوضًا وربما مضرًا أيضًا، بينما في مهنة التدريس فإن مساحة الإبداع أكبر بكثير، صحيح أن المعلم مطالب بالالتزام بحدود لا ينبغي تجاوزها في أخلاقيات المهنة وبعض الحدود المعرفية المقننة للمنهج والعملية الاختبارية بيد أنه مفتوح اليد في ممارساته التدريسية اليومية ليقدم أجمل ما عنده ويفكر خارج الصندوق، لا يكتفي بالعملية الإلقائية التقليدية وإنما ينوّع للطالب ويبتكر طرقاً جديدة تنشط تفاعلهم وتدفع باندماجهم المعرفي في نمو إدراكي وتقدم تعلمي، وهذا الإبداع لا يتوقف وكلما مر زمن على مجموعة من الطرائق أو الأدوات الجديدة وتكرر وشاع استخدامها ظهرت طرائق جديدة وابتكرت أدوات جديدة، سواء كانت في السياق التقليدي أو باستخدام تقنيات وابتكارات حديثة انتشرت بين الناس وهو ما حدث في توظيف تقنيات الجوال والإنترنت والتواصل الاجتماعي، وستظهر وتنتشر تقنيات مستقبلية يتم من خلالها التوسع بنفس الطريقة.
والإبداع ليس مهمة المعلم فقط، بل حتى المؤسسات التعليمية لها سهمها في هذه الساحة، سواء كانت مؤسسة كبيرة كالوزارات والجهات التعليمية المماثلة أو مؤسسة صغيرة كالمدرسة وما يماثلها في الحجم من المراكز والمعاهد والوحدات التربوية، وبالنسبة للمؤسسات الكبيرة فإن إبداعاتها الأكثر تأثيرًا هي في الأنظمة، حيث للأنظمة أثراً بليغاً في إحداث ثورات تغييرية في الأداء والسلوك التنظيمي، يلي ذلك الإبداع في صناعة المنهج فهو يقود التدريس، خاصة للمعلم المستجد والنمطي، فكلما كان المنهج مصاغاً بطريقة إبداعية، وليس نسخاً لمناهج دول أخرى قد لا تنطبق نفس ظروفها لدينا، وكلما كان المنهج يراعي الواقع الحالي ويتدرج به كماً ونوعاً، وكلما قدم المنهج للمعلم أدوات تسهيلية لفهم الطالب واستيعابه، كانت مهمة المعلم أكثر سهولة، وكلما كان الطلاب أكثر قربًا من المحتوى المعرفي وتشرباً له فهماً واستيعابًا، وبهذا النمط تبدع المؤسسات الكبيرة في مجالات كثيرة جدًا يصعب حصرها، وبالمثل فإن المؤسسات الصغيرة لها فرصها في الإبداع أيضاً، وإن كانت محدودة بما يمنح لها من صلاحيات إدارية ومالية إلا أن الفرصة تظل موجودة وبدرجة لا تقارن بغيرها من الوحدات الإدارية المماثلة في الجهات الأخرى غير التعليمية، فهذه المؤسسات الصغيرة تبدع في عمل المناسبات التعليمية وخلق ظاهرة التعلّم، ونشر المفاهيم التربوية الصحيحة، وهي قادرة أيضاً على الإبداع في طرقها وممارساتها الإدارية والقيادية بما يحقق درجة عالية من الانسجام بين فرق العمل فيها مما يولّد إبداع الأفراد الذي هو في النهاية رصيد لهذه المؤسسة.
السؤال الذي يطرح نفسه لماذا يلاحظ الإبداع أحياناً هنا أو هناك ثم يختفي؟ فلا هو يستمر في محضنه ولا هو ينشر العدوى لغيره (وما أجملها من عدوى في الواقع)؟ وأتصور أن السبب يعود في المقام الأول إلى عامل التحفيز والتشجيع ودرجة الرعاية التي يحصل عليها.
** **
- مدير عام تعليم سابقاً