قبل ثلاثة عشر عاماً كتبتُ قصيدة كان عنوانها (قبائل النسرين! هامش على قرطاس المتنبي..) وكان الحافز لكتابتها هو التأمل الطويل لبيت المتنبي الذي يقول فيه:
(يقولون لي ما أنت؟ في كل بلدة
وما تبتغي؟ ما أبتغي جَلَّ أن يُسمى)
بعد أن أنجزتُ كتابة القصيدة أرسلتُها إلى أستاذي الحبيب الدكتور إبراهيم التركي آملاً نشرها في ثقافية الجزيرة وقد تفضّل -حفظه الله - بإجازتها للنشر مع أنني كتبتُ للقصيدة مقدمة نثرية طويلة وكنتُ أقول لنفسي إنَّ من الممكن نشر القصيدة ولكن مع الاستغناء عن تلك المقدمة لطولها إلا أنَّ المجلة أظهرت القصيدة بمقدمتها النثرية وذلك ما أثبتَ لي حرص أبي يزن الذي طالما آزر الشباب من الكتاب والشعراء فصار لزاماً على المنصف الاعتراف بهذا الفضل.
القصيدة حتى الآن محفوظة في الأرشيف الإلكتروني للمجلة وقد ازداد تشبثي بمضمونها مع مرور الزمن إلى درجة أنني عدّلتُ كلماتها تعديلاً طفيفاً ثم أعدتُ نشرها في الكتاب الوحيد الذي أصدرتُه حتى الآن متجاهلاً فيه قصائد كثيرة كتبتُها ولم أجد الجرأة لإعادة نشرها.
إلا أنني نشرتُ فيه قصيدة أخرى مستوحاة من بيتين ينسبان للمتنبي في صباه وعنوان القصيدة (المتنبي في ظل قصير!).
حين أفقتُ من هواجس الكتابة ومحاولات الطباعة والنشر وجدتُ متّسعاً لقراءة قصائد لشعراء من مختلف الأقطار والأعمار يسكن ذكر المتنبي أشعار بعضهم ويسكن المتنبي وجدان فئة منهم فَشَخَصَ أمامي سؤال خلاصته (ما السر الحقيقي الذي يستدعي حضور المتنبي في هذا الكم الهائل من القصائد لدى هذا الجمع من الشعراء؟!).
ولأنني أعلم علم يقين أنه لا يحق لي الحديث نيابة عن غيري فلقد أعدتُ طرح السؤال مرة أخرى و لكن من (زاوية حادة) فصار السؤال على النحو التالي (ما الحالة الشعورية التي قد تتلاعب بشاعر ما في زماننا هذا ليَضُمَّ في كتاب واحد محدود الصفحات قصيدتين كلتيهما مقتبسة من طور من أطوار أبي الطيب؟!).
وَرَدَ على خاطري أكثر من تفسير لهذا الأمر والملحوظ أنَّ هذه السمة قد تبدو للوهلة الأولى وكأنها حالة من الإعجاب و الحب الذي يدفع شاعراً في زماننا هذا إلى رثاء أبي الطيب أو الثناء على سجاياه و إطرائه ونفي عيوبه و هجاء حساده وقاتليه إلا أن مسعى الهواجس الطويل أفضى بي في نهايته إلى سؤال آخر أشَدُّ انسجاماً مع الخيال ألا وهو (لو أنني عاصرتُ المتنبي فَسَمِعتُهُ ذات يوم يهجو قومي بإحدى قصائده الذائعة أفلا يكون ذلك مُسَوّغاً كافياً بمقاييس ذلك الزمان فأشارك القوم غارتهم على أبي الطيب في رحلته الأخيرة لتنهل السيوف من دمه؟!).
الحقيقة أنني كلما تفكَّرتُ في هذا السؤال أشعر بما يكدِّر صفو الخاطر حيران أقف على مفترق طرق ولا أرى أمامي قنطرة أعبرها إلى ضفاف فكرة كَمَحَجَّة بيضاء، إذ تلتبس في ذهني عندها الأبعاد الشخصية بالأبعاد الفنية المحضة، فالمتنبي من حيث المبدأ ليس شخصية مقدّسة ولكننا حين نستحضره في قصائدنا ننحاز إليه كما ينحاز المشاهدون إلى بطل القصة السينمائية مهما كانت الذنوب التي اقترفها ذلك البطل فهل يعني ذلك أننا نحب المتنبي حبا حقيقيا أم أننا نستلهم وجه المتنبي في قصائدنا لنتخذه قناعا تنكريا بحيث يستسيغ من يقرأ قصائدنا انزياح الأفكار عبر الأزمان الغابرة وإعادة توظيفها على الوجه الذي يُعلّل الأرواح المتعبة أم أنَّ الغرور يذهب ببعضنا كُلَّ مذهب حتى يُخَيَّلَ إليه حَقّاً أنه متنبي هذا الزمان؟!
هاهنا يحسن بي أن أقول بصراحة متناهية إنني لو كنتُ ( من حيث البعد التاريخي ) في مكان قاتل المتنبي لأخذتني نفس الحميّة التي أخَذَتْ ذلك الرجل الذي تربص بشاعرنا حتى فتك به دون أن يلتفتَ إلى القصائد والإبداع وما شابه ذلك من أمور رمزية لا تعني شيئا في موازين شخص غاضب قد غارت الجروح في أعماقه بسبب قصيدة لاذعة ذائعة قيلت في حقه أو في حق شخص من أهله.
وحتى نشعر بشعور ذلك الرجل الفاتك علينا أن نعقد موازنة من نوع ما بين سلوك المتنبي في كفة على أن تحمل الكفة الأخرى ما نعاصره في زماننا هذا من أفعال و مسالك ينتهجها أشخاص رانَ على قلوبهم ما اكتسبوه من شهرة و مكانة اجتماعية نالوها في مجال من مجالات الإبداع فكانت سبباً صريحاً في احتشاد الذات والغرور والوقاحة والاستهانة بمشاعر العامة على وجه يكتب في الآفاق سؤالاً راعفاً خلاصته ( هل يحق لشخص ما أن يهين الآخرين و يجرح كرامة أحدهم مفتتناً بذريعة أنه شاعر عظيم أو مبدع ذائع الصيت و على الآخرين أن يقبلوا إسفافه؟! ).
هكذا يتضح أننا نبالغ في انحيازنا لبعض الشخصيات التاريخية ولا سيما في الميدان الأدبي لأننا لم نعاصرها ونحن منحازون لمن نعرف دون أن نلتفتَ للأشخاص المعاصرين لتلك الشخصية التي نلمِّعُها غير آبهين بتجاوزاتها التي قد تمس كرامة بعض المعاصرين لها مِساساً غير مُستحبّ، بل على استعداد مسبق لكيل التهم الباردة لتلك الشخصيات الهامشية ووصفها بالحقد والجهل والاستبداد فنحن على سبيل المثال لا نرى في كافور الإخشيدي إلا عبداً خسيساً لأن المتنبي تطاول على ذلك الرجل ولكننا لا نستنكر على المتنبي وضاعته الشخصية وعنصريته وصفاقته التي نجد مثيلا لها في كل زمان ومكان ومع ذلك نتغاضى عنها لأن الحمقى لا يرون ذنوب تماثيلهم المقدّسة بدليل أنَّ من يسخرون بكافور الإخشيدي هم أنفسهم من يتعاطفون مع عنترة الذي كابد الأمرّين من قومه بسبب لون بشرته ودمه غير الخالص فما الفرق بين عنترة و كافور الإخشيدي؟
أقول لمن يشتمون قاتل المتنبي في بعض قصائدهم مقولة عنترة (ليس الكريم على القنا بمحرّم) وأعتقد جازما أن الفؤاد الذي يطفو تارة على موج الفطرة وينغمس في أعماقها تارة أخرى لا يسعه بأي حال من الأحوال إلا أن يستسيغ إنسانيتنا قبل أن يستسيغ شاعريتنا!
** **
- فهد أبو حميد