على مر الأزمان تتعرض كثير من القصائد لنسبتها إلى غير قائليها لأسباب متعددة. ويكثر ذلك فيما اشتهر بين الناس وكثرت روايته. ولنا في قصيدة (اليتيمة) التي مطلعها:
هل بالطلول لسائل رد
أم هل لها بتكلم عهد
خير مثال، إذ نسبت لأكثر من أربعين شاعرا!
وأما الشعراء الذين شهروا بغرض خاص من أغراض الشعر فهم أكثر من يلصق بشعرهم ما ليس لهم، فأي بيت فيه وصف متقن للخمرة ينسب لأبي نواس، وأي بيت فيه معاناة من بعد الحبيب وبكاء على فراقه ينسب لمجنون ليلى، وأي بيت حكمة ينسب للمتنبي وهكذا. والضحية غالبًا هم شعراء أقل شهرة أو مغمورون.
فمن أشهر أبيات الحكمة المعروفة:
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره
تعددت الأسباب والموت واحد
نسبه كثير من المشتغلين بالأدب إلى المتنبي، وهو لابن نباتة السعدي التميمي الذي ولد ونشأ ومات في بغداد.
ولد في سنة 327ه أي بعد مولد المتنبي بأربع وعشرين سنة، واتجه إلى سيف الدولة الحمداني ومدحه في الوقت الذي كان المتنبي قد غادر بلاطه سنة 345ه. والحكمة التي يحملها البيت هي ما حمل الناس على نسبته للمتنبي؛ فضلاً عن كون ابن نباتة معاصرا له، وأن كليهما مدح سيف الدولة..
ونسب الدكتور عمر موسى باشا مؤلف كتاب (تاريخ الأدب العربي في العصر العثماني) البيتين التاليين لأمين الجندي المتوفى سنة 1257ه - 1841م:
عيرتني بالشيب وهو وقار
ليتها عيرت بما هو عار
إن تكن شابت الذوائب مني
فالليالي تزينها الأقمار
في حين أن خليل الصفدي (ت764هـ - 1363م) نسبهما في (الوافي بالوفيات) لكل من الخليفة العباسي المستنجد يوسف بن محمد، ويحيى بن نصر السعدي البغدادي في ترجمتيهما.
وأورد الباحث علي الدرورة البيتين التاليين في مؤلفه (معجم شعراء المهمل):
سأترك حبكم من غير بغض
وذاك لكثرة الشركاء فيه
إذا سقط الذباب على طعام
رفعت يدي ونفسي تشتهيه
ونسبهما لشاعر سوري من أهالي دومة، هو صالح بن أحمد طه (1277 - 1325 - 1860 - 1907) وهذا غير صحيح، لأن البيت الأخير ويليه قوله:
كذاك الأسد تأنف شرب ماء
إذا رأت الكلاب يلغن فيه
وردا في كتاب (الدر الفريد)، ومؤلفه محمد بن أيدمر المستعصمي من القرن السابع الهجري، ويقول محقق الكتاب د. كامل الجبوري إنهما وردًا في كتاب (ثمرات الأوراق) 2 - 228
ويزيد الخطأ في نسبة الشعر لغير قائله رسوخًا تدوينه في كتاب مطبوع، إذ يبدأ الباحثون في الإسناد إلى هذا الكتاب دون تحقيق. وخير شاهد في أيامنا المعاصرة البيتان التاليان:
إن حظي كدقيق فوق شوك نثروه
ثم قالوا لحفاة يوم ريح اجمعوه
فقد أضيف لهما بيتان آخران ونسبت جميعًا للشاعر السوداني إدريس جماع، وكثيرًا ما يرفق بها قصة غرامية لتكون مناسبة لنظمها، ودليلا دامغا على صحة النسبة. وهناك من أراد تصحيح المعلومة فنسب الأبيات للشاعر عبد الحميد الديب لما فيها من وصف لحالة البؤس التي تليق بالشاعر الديب. فقد وجه الأستاذ عبد العزيز بن سعد الخراشي رسالة لرئيس تحرير جريدة الرياض نشرت في 3 - 3 - 2017 تعقيبًا على مقال نشر في الجريدة نفسها في 27 - 2 - 2016م للدكتورة فاطمة الزهراء الأنصاري بعنوان (حظك يا أبو الحظوظ) نسبت فيه البيتين السابقين إلى الشاعر إدريس جماع.
وما جعل الأستاذ الخراشي مطمئنا لنسبة الأبيات لعبد الحميد الديب أنه لم يعثر عليها في ديوان إدريس جماع الوحيد (لحظات باقية)، وأنها قد وردت ثلاث مرات في كتاب (الصعلوك الساخر وشعره المجهول: عبد الحميد الديب) الذي نشرته دار الكتاب العربي في دمشق والقاهرة، وطبعته دار القبس وصدرت الطبعة الأولى منه عام 2005م، ومؤلفه هو الأستاذ محمد محمود رضوان من مصر، وقدم له الشاعر فاروق شوشة، والأبيات في الكتاب المذكور الصفحات (406، 68، 58).
وذكر الخراشي أن محمد رضوان قال في دفاعه عن صحة نسبة الأبيات أن المقربين من عبد الحميد الديب قالوا إنه نظمها عام 1939م وكان عمر إدريس جماع في حوالي السابعة عشرة عامًا، ولم يكن زار مصر بعد.
انحصر الخلاف في نسبة الأبيات بين الفريقين بين جمّاع والديب، وما علموا أن الحقيقة خلاف ذلك كله. فقد أشار الباحث إبراهيم الحقيل في مقال له في مجلة اليمامة إلى أنها للّبادي؛ ذكر ذلك الخوارزمي (ت430) في كتابه (المناقب والمثالب) ص320 وقد وقفتُ بنفسي على البيتين في الكتاب المذكور.
ولعلنا نذكر أنه في كل عيد يتردد في وسائل التواصل الاجتماعي أبيات تنسب لنزار قباني، منها:
يا عِيدُ عذرًا فأهلُ الحيِّ قد راحوا
واستوطنَ الرّوضَ أغرابٌ وأشباحُ
يا عيدُ ماتتْ أزاهيرُ الرُّبا كَمَدًا
وأُوصِدَ البابُ، ما للباب مفتاحُ
والأبيات للشاعر السوري عبدالرزاق الدرباس ألقاها في أمسية شعرية في بيت الشعر بالشارقة يوم الثلاثاء 1 - 8 - 2017 وأهداها إلى الراحل نزار قباني، ولعل هذا سبب نسبتها إلى نزار.
وفي العصو ر المتأخرة كثرت المعارضات للقصائد الشهيرة، كما ذاعت ألوان التربيع والتخميس والتشطير، فالتبس النص الأصلي بالنص المضاف، وكثرت الأخطاء في نسبة الشعر لغير قائله، حتى وقع في هذا اللبس أكثر المحققين حرصًا وحفظا، فقد أورد الأديب عبدالله بن خميس -رحمه الله- في الجزء الثاني من كتابه (الشوارد) ص 800 - 801 بيتين نسبهما للمجنون، وهما:
وليلى ما كفاها الهجر حتى
أباحت في الهوى عرضي وديني
فقلت لها ارحمي ضعفي فقالت:
وهل في الحب يا أمي ارحميني؟
على الرغم من وضوح حداثة تعبير (يا أم ارحميني) واستحالة أن يكون لغير شاعر معاصر! وقد وجدتُ - مصادفة - في ديوان عائشة التيمورية المتوفاة سنة 1902 أنها قد شطَّرت البيتين وخمَّستْهما على أكثر من شكل؛ اختار منها هذا التشطير:
وليلى ما كفاها الهجرُ حتى
أَطالت في دُجى لَيلي أَنيني
وكلّ تجلدي بِالصبر لمَّا
أَباحت في الهَوى عرضي وديني
فقلت لَها: اِرحمي آلاِمي قالَت:
كذا خطَّ اليراعُ على الجبين
فَدعْ قلقَ الصِغارِ وكن صبورا?
وَهَل في الحُبِّ يا أُمّي اِرحَميني؟َ
** **
- سعد عبد الله الغريبي