تحفِل المجاميع المخطوطة المحفوظة في مكتبات العالَم بجنس تأليفيٍّ ظريف، ونوعٍ تصنيفيٍّ لطيف، يصدق عليه أن يحوزَ أصغرَ اسم في حقل التَّأليف في التُّراث العربيّ، ارتأينا أن نُعرِّج عليه في هذه العُجالة في ثلاثة محاور، هي: مقدِّماتٍ ومشكلاتٍ وحلولٍ.
نرجو أن يضطَّلِع هذا الاسم بهذا المفهوم، ويُصطَلَح عليه، وأن يحظى بالشُّيوع والذُّيوع، فيكون وسيلةً تُسعِفُ في إحياء هذا الصِّنف من التُّراث العربيّ المجيد. والله وليُّ التَّوفيق.
المحور الأول: مقدِّمات
المسألة الأولى: التَّسمية
تبيَّن لنا أنَّ أجدرَ اسم بهذا النَّوع من التَّأليف هو اسم (الرُّسَيِّلة)، تصغير رِسالة؛ لسببين:
أولًا: أثَريّ، يستند إلى ورود هذا المصطلح في التَّراث العربيّ، متصدِّرًا عنوانَ مؤلَّفٍ بالمفهوم الذي يقتضيه هذا الاسم ويدلُّ عليه، وأقدم مَن وجدتُه استعمله فيه هو أبو الفضل عبد الرَّحمن الإيجي (ت756هـ) فيما نسبه إليه شمس الدِّين الكرمانيّ (ت786هـ)، بقوله: «قال المصنِّف في رُسَيِّلةٍ له في مسائل شتَّى في النَّحو»(1). ثم وجدتُّه عند محمد الطّرابزونيّ الحنفيّ الشَّهير بالمدنيّ (ت1200هـ)، في ثلاثة مؤلَّفاتٍ أكرمني بها الأستاذ الفاضل الدُّكتور مصطفى كامل أحمد -جزاه الله خيرًا- هي: (رُسَيِّلةٌ في مثلَّثلت اللَّام)(2) ، و(رُسَيِّلةٌ فيما يتعدَّى ولا يتعدَّى)(3) ، و(رُسَيِّلةٌ في بيان الألفاظ التي يستوي فيها المفرد والمثنَّى والجمع والمذكَّر والمؤنَّث)(4).
ثانيًا: نظريّ، يتمثَّل بما يأتي:
1. صيغة المصطلح التَّصغيريَّة الدَّالَّة على صِغَرها.
2. الاختصار والإيجاز في المصطلَح، فيُعينُ على استعماله وشيوعه، ويُكسِبه السُّهولةَ على اللِّسان، والخفَّةَ على السَّمع؛ فيتيسَّر حفظه وتذكُّره.
3. التَّطابق في المبنى والمعنى، وحصول التَّناسب بين الاسم والمسمَّى، باختيار اسم قصير لنصٍّ قصير.
المسألة الثانية: التَّعريف
يمكننا أن نقترح للرُّسَيِّلة التَّعريف الآتي: «هي المؤلَّف الحاوي ( أو الحامل)، الأصغرُ في مَحويِّه (أو محموله)».
فقولنا: (المؤلَّف) جنسٌ يشمل جميع أنواع التَّأليف. و(الحاوي) أي الوعاء الحامل للنَّصِّ بين دفَّتيه، قيدٌ يُحتَرَزُ به عن المؤلَّف المحويّ أو المحمول؛ لأنَّ المؤلَّف مثلما يُطلَق على الوعاء الحاملُ للنَّص قد يُطلَق على النَّص المحمول، فيقال: هذا مؤلَّفٌ في القصَّة أو الشِّعر أو النَّحو أو ما شابه ذلك. و(الأصغر) قيدٌ يُخرِج الكتابَ والرِّسالةَ؛ لأنَّهما أكبر من الرُّسَيِّلة. وقولنا (في محويِّه) قيدٌ لمحِل الأصغريَّة، وبيانٌ بأنَّ المعتدَّ به في التَّسمية هو الأصغر في جانبها المحمول لا الحامل، فلا تخرج الرُّسَيِّلةُ عن وصفها بهذا الاسم حتى لو طُبِعت بمقاس القطع الكبير أو المتوسط، ومثلها الكتاب لا يخرج عن وصفه الكتابيّ إذا ما طُبِع على أصغر مقاس، نعم، قد يُطلَق عليه اسم (كُتيِّب)؛ بناءً على صِغَر حجمه، لكنه لا يُسمَّى رسالةً أو رُسيِّلة إلا إذا صَغُرَ محتواه ومضمونه. والله أعلم.
المسألة الثَّالثة: الخصائص
يمكننا استخلاص جملةٍ من الخصائص لهذا الصِّنف من المؤلَّفات، بناءً على دراسة ثُلاثيَّة الطرابزونيّ فقط؛ لأنَّها هي كلُّ ما وقفنا عليه ممَّا وصلَنا مُسمًّى بهذا الاسم في التُّراث العربيّ؛ فتكون أصدقَ نماذج للرُّسَيِّلة، وأبين صورةً للتَّعبير عن سماتها ومزاياها وحقيقتها. فكان أن أبعدنا عن دائرة تحليلنا تلك التي لم تتصدَّر بكلمة «رُسَيِّلة»، ولم تُسَمَّ بها؛ لاحتمالية ورودها عند بعضهم باسم رسالة؛ فلا تكون صورةً صادقةً لبناء الخصائص عليها.
وهذه الخصائص هي:
أولًا: الأصالة في الخطّ: هي كون النُّسخة أصليَّةً بخطِّ المؤلِّف، ولعلَّ سبب ذلك هو لأنَّ الدَّافع لكتابة هذه الرُّسيِّلات هو السُّؤال الذي وجِّه إلى المؤلِّف، فيخطُّ بيده الجواب عنه، أو هو الابتداء ببيان ما يراه المؤلِّف مُقتضيًا للكتابة عنه، فضلًا عن سمة الاختصار والإيجاز التي يمتاز بها هذا النَّوع من التأليف؛ فلا تُكلِّف المؤلِّفَ الوقتَ والجهدَ في أن يتولى خطَّها وتحريرها بنفسه. والله أعلم.
ثانيًا: الفرادة في النُّسخة: أرى أنَّ وَحدة النُّسخة الخطيَّة لهذه الرُّسَيِّلات وفرادتها ترجع إلى سببين:
1. السَّبب الاقتصاديّ: هو الجانب الماديِّ الماليّ؛ لأنَّ النِّساخة كانت حِرفةً يُعتاش منها، ويُرتزَق بها(5)، ووسيلة لإشباع حاجات النَّاسخ وتأمين المعيشة الكريمة له ولأسرته، فالعلاقة بين النَّسخ والأجر كانت علاقةً وثيقةً، ولـمَّا كانت أُجرة النَّسخ على عدد الأوراق، أو مقدار المنسوخ، كان المنظور المادِّيّ للمخطوط المراد نسخه من أولويَّات أغلب النُّسَّاخ؛ فيزهد النَّاسخُ في هذه النَّماذج الصَّغيرة؛ لضآلة ما يجنيه منها، فيعدل عنها إلى الكتب والمطوَّلات التي تدُرُّ عليه ما لا تحقِّقه تلك الرُّسَيِّلات.
2. السَّبب التَّسويقيّ: نعني به مبدأ العرض والطَّلب(6)، فالطَّلب بعامَّة يكون على الكتب التي فيها من العلوم والمعارف ما يسعى إليه القارئ؛ ليسدَّ حاجته منها، أمَّا العلوم والمعارف المودَعة في هذه الرُّسَيِّلات فتكاد تقتصر على الجزئيَّات التي هي في الغالب من متطلبات الخواصّ وأهل العِلم، فإن كان الفرق بين الكتاب والرِّسالة «على ما هو مشهور إنَّما بحسب الكمال والنَّقص، فالكتاب هو الكامل في الفنِّ، والرِّسالة غير الكامل فيه»(7)، فالرُّسَيِّلةُ تكون أنقص من الرِّسالة فيه؛ فلا يجد النَّاسخ حافزًا عليها، أو دافعًا إليها، فيرغب عنها؛ لئلا يهدر وقته وجهده في انتساخ ما ندُر الطَّلب عليه. والله أعلم.
ثالثًا: الأصغريَّة في المحتوى، فكانت إحدى هذه النَّماذج في صفحةٍ ونصف صفحة(8)، والثَّانية في صفحتين(9)، والثَّالثة في صفحتين ونصف صفحة(10)؛ لورودها -فيما أرى- على سبيل بيان المسائل الدَّقيقة الخاصَّة أو الجزئيَّة المختلف فيها، أو التي وردت بناءً على سؤال واستيضاحٍ، فتأتي مختصَرةً دون إطالةٍ، وموجَزةً دون إطنابٍ على قَدْر ذلك المقتضِي ووَفقًا له.
المسألة الرَّابعة: الفوائد
تظهر فائدة فهرسة هذه الرُّسيِّلات ونشرها فيما يأتي:
1. الكشف عن آثار الحضارة العربيَّة والإسلاميَّة.
2. الحفاظ على التُّراث وصيانته من الضَّياع والاندثار.
3. إظهار ما فيها من الفوائد العلميَّة، والقِيَم التَّاريخيَّة والحضاريَّة، والسَّعي إلى تقديمها إلى الجمهور.
4. تحفيز الدِّراسات العربيَّة الحديثة، وحثِّها على التقُّدم والعطاء في ضوء معطيات ماضيها العريق.
المحور الثَّاني: مشكلات
أولًا: مشكلة الفهرسة: تكمن هذه المشكلة في غياب تدوين هذه الرُّسيِّلات من فهارس هذه المجاميع، فتقبع في تضاعيفها وأثنائها. ولعلَّ سبب الإعراض عن فهرستها يرجع إلى تداخل نصوص هذه الرُّسيِّلات مع المؤلَّفات السَّابقة أو اللَّاحقة لهها؛ لصِغَر حجمها، وخلوِّها من العنوان؛ فلا يُلتفَت إليها ظنًّا أنَّها مع ما قبلها أو ما بعدها أثرٌ واحدٌ، لا مؤلَّفَينِ مستقِلَّين.
ثانيًا: مشكلة النَّشر: امتناع أغلب المجلَّات العلميَّة عن قبول هذه الرُّسيِّلات؛ لافتقارها إلى شروط قواعد النَّشر في تلك المجلَّات، أو لأنَّها صغيرةٌ جدًّا لا تنهضُ أن تكون بحثًا على وفق مبتغى الجامعات؛ فتبقى بمنأى عن اهتمام الباحثين، وإقبال المحقِّقين وعنايتهم.
المحور الثَّالث: حلول
ينبغي لذوي الشَّأن والاهتمام بالتُّراث والمخطوطات سواءٌ أكان ذلك على مستوى الأفراد أم على مستوى المراكز والمؤسَّسات العلميَّة والجامعات؛ ينبغي لهم العملُ على نشر هذا الصِّنف من التُّراث، والسَّعي إلى إخراجه من غيابة هذه المجاميع من خلال الوسائل الآتية:
أولًا: حلول مشكلة الفهرسة: تتلخَّص فيما يأتي:
1. إيلاء العناية بفهرسة المجاميع غير المفهرسة فهرسةً وصفيَّةً، وحثُّ الباحثين وتشجيعهم عليها في منابر العلم ووسائل التَّواصل.
2. إعادة النَّظر في فهارس ما فُهرِس من هذه المجاميع؛ للتَّحقُّق من أنَّها استقصت محتويات هذه المجاميع، وأتت على مضامينها، والتَّأكُّد من أنَّها لم يندّ عنها شيءٌ من هذه الرُّسيِّلات؛ لتكون في مرأى المهتمِّين، ومتناوَل المحقِّقين، سواءٌ أكان ذلك ورقيًّا أم إلكترونيًّا.
ثانيًا: حلول مشكلة النَّشر: تكون على وَفق ما يأتي:
1. النَّشر المنجَّم: هو النَّشر الذي يكون بتخصيص زاوية في المجلَّات العلميَّة والثَّقافيَّة والتُّراثيَّة، تُعنى بنشر هذه الرُّسيِّلات مهما كانت صفحاتها، وأيًّا كان حجمها، تُحقَّقُ فيها هذه النُّصوص في مختلف العلوم تحقيقًا علميًّا، كلٌّ على وَفق اختصاصه ومجاله، مقتصِرًا في قسمه الدِّراسيّ على ما يفي بالغرض، ويؤدِّي إلى المطلوب والغاية، ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا؛ خشية أن تشغل مساحاتٍ كبيرةٍ في هذه المجلَّات؛ فيتعسَّر أو يتعذَّر نشرها لدواعٍ فنيَّةٍ.
2. النَّشر المجمَّع: هو النَّشر من خلال تجميع هذه الرُّسيِّلات وإخراجها مضمومةً بين دَفَّتَي كتابٍ مستقلٍّ، على أحد المنهجَين(11):
• تجميع على وفق ما اتَّحد موضوعُه.
• تجميع على وفق ما اتَّحد مؤلِّفُه.
ـــــــــــــــــــ
الهوامش:
(1) تحقيق الفوائد الغياثيَّة: شمس الدِّين الكرمليّ، تحقيق ودراسة: د. علي بن دخيل بن عجيان العوفي، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، ط1، 1424هـ:1/318. وقد علَّق عليها المحقِّق في الهامش رقم (5) بقوله: «لم أقف عليها، وقد أشار بعض من ترجم للإيجي أنَّ له رسالة في علم الوضع، فلعلَّها تكون هي».
(2) دراسة وتحقيق: أ.م.د.مصطفى كامل أحمد، ود. ظافر خير الله جميل، مجلة جامعة تكريت للعلوم الإنسانية، المجلد (24)، العدد (10)، 1439هـ/2017م: 320- 352.
(3) دراسة وتحقيق: أ.م.د.مصطفى كامل أحمد، وم.د. ظافر خير الله جميل، مجلة جامعة الأنبار للغات والآداب، العدد السَّادس عشر (2018م): 25- 53.
(4) دراسة وتحقيق: أ.م.د.مصطفى كامل أحمد، ود. ظافر خير الله جميل، مجلة الجامعة العراقية، العدد (42/3)، 2018م/ 1440هـ: 303- 319.
(5) (6) انظر: موسوعة الوراقة والوراقين في الحضارة العربية الإسلامية: د.خير الله سعيد:1/ 269.
(7) كشَّاف اصطلاحات الفنون: محمد التهانوي: 1/859، وانظر: دقائق العربية: الأمير أمين آل ناصر الدين:56.
(8) انظر: رُسَيِّلة في بيان الألفاظ التي يستوي فيها المفرد والمثنَّى والجمع والمذكَّر والمؤنَّث:308.
(9) انظر: رُسَيِّلة في مثلَّثلت اللَّام:327.
(10) انظر: رُسَيِّلة فيما يتعدَّى ولا يتعدَّى:30.
(11) اقترحمها الأستاذ أبو أحمد السميري في تعليقة له على تغريدة لي في الموضوع. انظر:
أبو أحمد السميري AAsamiri@، تغريدة بتاريخ: (11/ 9/ 2021م)، عُوينَت في: 11/ 9/ 2021.
** **
صفاء صابر مجيد البياتي - العراق، كركوك