عبدالرحمن الحبيب
في الزمن الحديث، منذ دفاع إيمرسون الحاد عن «الاعتماد على الذات» في عام 1841 إلى بزوغ ثقافة السيلفي الخاصة بذواتنا هذه الأيام، مروراً بظهور صناعة «المساعدة الذاتية» في ثلاثينيات القرن الماضي، صار يُنظر إلى الذات على أنها أعلى قيمة لنا وموضوع نضالنا: التحسين التعليمي والجمالي والمالي والحاجة إلى إرضاء توقعات الآخرين ورأيهم فينا هي العناصر التي تشكل الهواء المثالي الذي نتنفسه جميعًا الآن، حسب تعبير البروفيسور جوش كوهين، جامعة لندن (مجلة الإيكونيميست).
بقول جوش: «في عملي كمحلل نفسي، كثيرًا ما أقابل أشخاصًا في قبضة بعض المثالية العقابية للحصول على الكمال المهني أو الرومانسي أو الجسدي أو الأخلاقي. نادرًا ما يمر يوم دون أن يندب مريض واحد على الأقل أو يوبخ نفسه بسبب إخفاقه في تحقيق الهدف أو المعيار الصارم الذي حددوه لأنفسهم. عادة ما يتم تضخيم التمزق الذاتي من خلال الاعتقاد بأن شخصًا آخر يعرفونه - زميل أو شقيق أو صديق - قد يكون، في مكانهم، قد حشد الجهد أو المكر اللازمين للنجاح».
لكن يبدو أن القيود بسبب كورونا قد غيرت المشهد ولو مؤقتاً.. يوضح جوش أنه عندما بدأ الإغلاق في الربيع الماضي: شعرت أنني بدأت أرى العديد من مرضاي يتخلون عن مطالب الكمال التي وضعوها على أنفسهم. تكيفت المؤسسات والشركات مع العمل من المنزل، ورأى كثير من الناس هدوءًا في عبء العمل، واستراحة من المراقبة المستمرة وفرصة لإعادة ضبط أولوياتهم. لقد قبلوا بسرور الملذات البسيطة - الخبز والمشي والقراءة والحديث - وصاروا متفائلين بشأن علاقاتهم مع شركائهم وعائلاتهم.
يروي جوش المشهد قائلاً: فوجئت بشكل خاص بروح قبول الذات غير المألوفة التي صاحبت هذه التغييرات. قالت بولي، أحد مرضاي: «لقد شعرت بالبهجة عند تقديم مراجعة السياسة هذه». «كانت جميلة نحيلة.» بعد أن كانت تصف نفسها بأنها «نفسياً مرضية» في المرة الأولى التي التقينا فيها، أما الآن فهي تسعد بإنتاج عمل عادي «بالكاد يصل إلى جيد».
لقد فتحت «قيود كورونا» عقل بولي على كل ما فقدته: البستنة، وركوب الدراجات مع شريكها، ولعب الألعاب مع أطفالها. لكن بعد حوالي ستة أسابيع، شعرت أن هذا المزاج الجديد من التساهل يتضاءل وعادت المطالب القديمة إلى الظهور بشكل عقابي. إنه للأسف مثل تحولات الفيروس نفسه، تكيفت رغبة بولي بالكمال مع الظروف ذاتها التي بدأت في تحييد هذه الرغبة. كانت تعتقد أنها تستطيع التملص من المراقبة والحكم من مديرها المباشر في المنزل؛ والآن أصبحت تدرك أنها ملحوظة بشكل متزايد على شبكة التواصل؛ كما وجدت مصدرًا جديدًا للتنافس في العمل من المنزل: من الذي يمكن أن يكون أكثر إنتاجية في ظل هذه الضغوط الإضافية؟
بدأ جوش يلاحظ تكراراً لهذا التحول في العديد من مرضاه: أنظمة لياقة بدنية أكثر صرامة، واهتمام أكثر يقظة بتعليم أطفالهم في المنزل. كما أنهم أصبحوا أكثر غضبًا وإحباطًا من شركائهم وزملائي وأحيانًا معي. لقد عاد السعي إلى الكمال مجدداً، كمُغرٍ لا يرحم كما كان قاسياً من قبل.. أما الإحساس الأولى خلال فترة قيود كورونا فيبدو وكأنه كان فترة راحة مؤقتة وحان الوقت للعودة إلى الصرامة مرة أخرى. يقول جوش: «هذا جعلني أعتقد أن الكمالية قد تكون عنصرًا متجذرًا ومستمرًا في الحالة الإنسانية».
سجل عالمان نفسيان بريطانيان (توماس كوران وأندرو هيل، 2017) ارتفاعًا هائلاً في السعي إلى الكمال بين جيل الشباب بسبب «المعايير الاجتماعية والاقتصادية المتطلبة بشكل متزايد» التي كافحوا من خلالها ليصنعوا حياتهم. كما ألقيا باللوم على «ممارسات الوالدين المتزايدة في القلق والسيطرة». إن أسواق العمل المزدحمة، خاصة بالنسبة للوظائف المهنية والإبداعية المرغوبة، فضلاً عن تكاليف الإسكان الذي لا يمكن تحمله، تدفع الشباب وأولياء أمورهم إلى جهود أكبر لتأمين ميزة تنافسية.
أجواء عدم الوضوح والمنافسة الحادة والصراع على الجدارة الذي تسببه السوق الحرة، وما تولده من انتشار قلق الكمال تناولها الفيلسوف الأمريكي مايكل ساندل في كتابه «طغيان الاستحقاق»، عام 2020، خلاصته أن «رأسمالية الجدارة» خلقت حالة دائمة من المنافسة داخل المجتمع، مما يقوض التضامن ومفهوم «الصالح العام». يحافظ هذا النظام على ترتيب الرابحين والخاسرين بشكل مستديم، ينمي «الغطرسة وتهنئة الذات» للأول وتدني القيمة الذاتية للثاني بشكل مزمن بين هؤلاء. في مثل هذه الثقافة، من المرجح أن يصبح الشباب غير راضين عما لديهم ولا على أنفسهم. وهنا، تخلق وسائل التواصل الاجتماعي ضغطًا إضافيًا لبناء صورة عامة مثالية، مما يؤدي إلى تفاقم مشاعرنا بعدم الكفاءة.
في غياب الشعور الجوهري بالقيمة، يميل الساعي إلى الكمال إلى قياس قيمته مقابل المقاييس الخارجية: السجل الأكاديمي، والبراعة الرياضية، والشعبية، والإنجاز المهني. عندما لا ترقى إلى مستوى التوقعات، تشعر بالخزي والإذلال. هذا الثقل في توقعات المجتمع ليس ظاهرة جديدة وليس بالضرورة مؤذياً، ولكنه أصبح مستنزفًا بشكل خاص خلال العقود الأخيرة، حيث يشعر «الكماليون» اليوم بواجب التميز من خلال أسلوبهم الفريد والذكاء إذا أرادوا الحصول على موطئ قدم في اقتصاد الانتباه على حد تعبير جوش..