الشيخ حمد بن محمد الجاسر عالم من الطراز الأول نجم ساطع، وضياء لامع في سماء لغة العرب فهماً وأدباً وأربا، يستهويك حصاده بكل سلاسة وبسالة وعذوبة وبيان، فتجني من يراعه رطباً جنياً هنياً، سيرته تضيء مسالك المريدين، ومسيرته تشع مدارك الباحثين، نبه القلوب إلى علم زاخر فيه شفاء العقل العليل، البصر الكليل، والعي السقيم، وفي هذا الكتاب الذي تقع قراءته بين ناظريك، وسبق وسم عنوانه، لك قبس من عذوبة فكره، وجلالة علمه، كل ذلك يطرحه لك الجاسر -عليه رحمة الله- في حلل علمية مطرزة متباهية مختالة سندسية حريرية فلله دره.
هام الجاسر بالجزيرة العربية وعشقها حتى الثمالة، فأبدع لها، تأليفاً وتحقيقاً ودراسة وبحثاً هو البحر من كل النواحي أتيته.. فدرته الياقوت والجود ساحله.
لا أحد ينكر فضل علامة الجزيرة عليها، فقد مد لها يداً قصر غيره عن سواها، فابتدع لها مقالات عميقة الطرح، غنية التناول بين تحديد المواضع، والمباحث اللغوية والتراجم التاريخية والرحلات التراثية والإنسان والخيل، وما هذه القراءة إلا اطلاعاً بسيطاً على نفس من أنفاسه كمؤرخ لتاريخ الجزيرة العربية فالمتمعن في نتاجه يلمح علماً جما، وتاريخياً أحلى، فتارة يكتب مقالات تاريخية عن سير تراثية كـ(تاريخ الدولة السعودية الأولى من المصادر اليمنية) و(الصلات بين صنعاء والدرعية في الدولة السعودية الأولى)، وتارة يمزج بين السيرة التاريخية والتراجم متحدثاً عن علم بارز، وشخصية سامقة، كما فعل في كتاب ابن عربي هذا موطئ الحكم لبني أمية على ثرى نجد، وتارة يأتي بالحديث وتراً فرداً عن تاريخ بلد معين ومثاله حديثه المسهب في كتابه المفصح: (في سراة غامد وزهران) وكذلك حديثه عن بلاد ينبع كمؤرخ لها وفي حين يطرق الجاسر التاريخ من دراسات لمؤرخين عارضاً لكتبهم ونتاجهم ومثال هذا: (مؤرخو، نجد من أهلها) أو (مؤلفات في تاريخ المدينة المنورة) وفي تارات أخرى يسلك مسلك التحقيق التاريخي لكتب تاريخية عامرة، من ذلك تحقيق كتاب (البرق اليماني في الفتح العثماني لقطب الدين النهرواني المتوفى سنة (990هـ - 1582م).
وفي ثرى التاريخ له كتب أخرى مؤلفة، ورسائل محبرة، ومقالات جمة متعددة.
وأما فنون العلم الأخرى فيقال بأن تدويناته على وجه العموم جاوزت الألف، فله ثلاثون عنواناً، وستة منها اشتملت على أكثر من جزء، وفاقت الكتب المحققة أكثر من سبعة عشر عنواناً مطروحاً منها أربعة جاءت رافله في أكثر من جزء وأما المؤلفات التي أشرف على طباعتها وعلق على حواشيها فهي ثمانية كتب مطرزة محلاة والتراجم حظيت باهتمام شديد فقد نشر له في حياته ستة كتب تقوم على سير شخصيات بأعيانها، ثم أضف الى ذاك ما نشر له بعد وفاته.
وكتابه الذي بين أيدينا الآن (ابن عربي) وهو موطد الحكم لبني أمية في نجد مخصص بأكمله لسيرة إبراهيم بن عربي وهو واقع في ثلاثمئة صفحة من القطع الكبير، وقصره على ابن عربي أطول ولاة بني أمية حكماً حيث بلغت ولاية اثنين وثلاثين عاماً أضف إلى ذلك مباحث تاريخية مهمة، فهو يحكي كثيراً من المعلومات التاريخية عن حاضرة نجد وملوكها الذين قطنوا أرضها، وأقلوا سماءها، فيبين عن الأوضاع الإدارية في دلالة اليمامة ويقصد بها أجمعين نجداً، ويصفها في عهد الخلفاء الراشدين - رضوان الله عليهم - ويشير الى حروب الردة التي وقعت إبان تلك الحقبة التاريخية، كذلك يبين حال سكان هذه البلاد عند استقرار الحكم الأموي في نجد، ثم عدم ملاءمته لطبيعة ساكنيها، وبوادر الحركات السياسية مثل استيلاء نجدة بن عامر الحنفي على البلاد، وسعيه لتوطيد حكمه في نجد، ثم يعرض قصة استيلائه على البحرين وعمان والطائف واليمن، كما طرق الشيخ عليه شآبيب الغفران، أمراً مهماً وهو الخلاف بين فكر نجدة الحروري وبين غلاة أصحابه ممن هم على ملة الخوارج، ويتبع الشيخ هذه الناحية برأيه في أسباب الاختلاف بين نجدة بن عامر الحنفي وأصحابه، ومن سياق الحديث يبين رأيه في شخصيته نجدة السياسية ثم يصف نهايته معرجاً في بحثه هذا على تاريخ وفاة نجد الحروري، وفي سياق حديثه لمحة إلى أصل قرية (منفوحة) وأنها مشتقة من كلمة (أنفح لنا) أي: (هب لنا) ويفرق لقارئ الكتاب بين شخصيتين خلط البعض بينهما وهما يزيد بن هبيرة المجازي، ويزيد بن عمر بن هبيرة القراري، وفي حديثه الثر يرسم لنا صورة إبراهيم بن عربي واضحة القسمات، بارزة، السمات، ويشير إلى أمر في غاية الأهمية وهو تصحيف اسم ابن عربي إلى (ابن عدى) في مصدر مهم من مصادر التاريخ وهو (تاريخ دمشق) لابن عساكر، وهنا تظهر براعة الشيخ في تصويباته، وتفننه في تقويماته (ص 55، ص 61، 62)، والشيخ يسير على خطى علماء الجرح والتعديل في حكمه على الرجال، وتتضح هذه المنهجية في رأيه في نجدة بن عامر الحنفي ولم يفت الشيخ الكلام في نسب إبراهيم بن عربي، فرغم انتسابه إلى كنانه إلا أنه مغموز النسب، فقد كان أسود اللون، وكان يلقب بالملك الأسود، كما تناول شخصية ابن عربي السياسة القوية مع جده وصرامة فيه، وفي الكتاب حديث مهم عن أدب السجون، يحكي، فيه عن سجن (دّوار) وما يحدث فيه من التفنن في تعذيب المساجين وهو سجن أنشأه ابن عربي، واستعرض أسماء عدة سجونأقيمت لقمع الناس في عهد الدولة الأموية، وألمح الى أيبات شعرية قالها الشعراء في أدب السجون من ذلك قول جَحْدَر المحزري:
أقول للصحب في البيضاء دونكم
محلة سودت بيضاء أقطاري
مأوى الفتوة للأنذال قد خُلقت
عند الكرام محل الذل العار
كأن ساكنها من خوفها أبداً
لدوى الخروج كمنقاش من النار
وقول عبدالرحمن بن حِسْل:
إلى الله أشكو لا إلى الناس ما عدا
أبا حسن غلا شديداً أكابده
بخيبر في قعر القموص كأنها
جوانب قبر أعمق اللحد الاحبه
ان قلت حقاً أو نشدت أمانة
قتلتُ؟ فمن للحق إن مات طالبه؟
ويستعرض الكتاب قصة جحدر الحنفي مع الأسد، وقصة الشاعر البعيث مع ابن عربي، وشعر الفزروق في ابن عربي، ويختم باستعراض أيام عرب بني عامر، وأيام عرب بني ضيفة، ويقرر حقيقة مهمة وهي انتهاء وقائع العرب وأيامهم بتوحيد الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود للبلاد.
وأخيراً:
جاء أسلوب الجاسر عليه رحمة الله في هذه الترجمة التاريخية بعيداً كل البعد عن معالم الطريقة التقليدية في بسط حقائق الترجمة للمترجم له، والتي تتركز على بسط النسب والميلاد والتنشئة والتعليم وأحداث الحياة للمترجم له وأحاديثها، وأسلوب العلامة حمد الجاسر ينم عن حس مرهف، ودعابة طريفة، وقلم سيال ماتع، وتواضع جم هذا مع شمول وإحاطة في طرح الحقيقة، وتحرير المادة بإيجاز غير مخل، وإطالة غير مملة، يظهر فيها قوة البرهان، وشدة الشكيمة، وقرع الحجة بالحجة بعداً عن الشقاق والخصام، والجدل والجدال.
هذا وقد وظف الشيخ ديوان العرب الشعري في تحقيق الحقائق استعاضة بالشعر عن شح المصادر والمراجع.
حفظ الله نتاج الشيخ وأبقاه، وشق له من اسمه ليجله ويرعاه.
** ** **
قراءة: حنان بنت عبدالعزيز آل سيف (بنت الأعشى)
تأليف: العالم العلامة / حمد الجاسر -عليه رحمة الله-
طبعة دار مرامر
الطبعة الأولى 1414هـ - 1993م
عنوان التواصل: hanan.alsaif@hotmail.com