د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
سيعترف بدءًا أنه لا يهوى المتاحفَ، وإذا زارها فمن أجل ألَّا يبنيَ حكمَه على رغبةٍ مستترةٍ لم يُتَحْ لها أن تُختبر، وكان أهمَّ مُتحفين زارهما: المُتحفُ المصري في القاهرة، ومُتحف اللوفر بباريس، ولو جمع الوقت الذي أمضاه فيهما فلن يتخطى ساعةً واحدةً من الزمن، ولم يزرْ سواهما بصورةٍ قصديةٍ، وما الظنُّ أن لديه نيةً لارتياد متاحفَ قوميةٍ غير ما ارتاد.
** وفي المقابل، فإنه يجد متعةً في زيارة متاحف الرموز الثقافية العربية كلما أتيحت له متأملًا منازلهم وأوراقهم وأماكنَ جلوسِهم وقراءاتِهم وتأملاتِهم ومنامِهم، ويذكر أنه تردَّدَ على «الحيَّ اللاتينيّ» بباريس وجلس في مقاهٍ «شعبية» تأكد أو توقعَ أنْ قد عبر بها بعضُ كبار مثقفي العرب والغرب، كما زار بيتَ جبران في «بشرِّي» لبنان، ومعتكف «ميخائيل نعيمة» في الشخروب قرب «صِنّين»، ومنزل «أمين الريحاني» في «الفريكة»، و»مارون عبُّود» في «عين كفاع»، وشقة محمد الماغوط وبيت صباح قباني في «دمشق»، وسواها في سواها، وما يزال يأمل في زيارة «رامتان» و»كرمة ابن هانئ» و»بيت العقاد» ومكتبة «محمود شاكر» في مصر، وغيرها، وحين يُذكرُ له بيتُ عالِمٍ أو مكتبته فإنه يسعى إليها بتطلع.
** لم يعشْ زمن «السواني» التي تروي المزارع، وإذ تكاثرت عروضُها لم تستوقفْه، وأُضيفت إليها الأواني والملابس والأدوات فلم تجتذبْه، وفي الضفة الأخرى فإنه يهوى الشارعَ العتيق، والبيت التأريخيّ، وتُسعدُه أحاديثَ الذكريات التي تُحيلُ جفاءَه إلى وفاء، وجفافَه إلى مطر، وحياده إلى عشقٍ، واعتزازه إلى بعضِ أسىً على ما فعلته آلاتُ التحديث بمراتع الأقدمين ومرابعهم.
** لا يشكُّ بوجود تناقضٍ بين السلوكَين، ولا يجدُ له تبريرًا؛ فكيف يُعرضُ عن نُزُلٍ فخمٍ ليسكن خيمةً عتيقة؟! غير أنها النفسُ تُرى صاحبَها ما لا يُرى، أو لعلها العينُ تنفتحُ في الغسق وتنغلقُ في الفلق، وقبله عشق أحدُهم شمطاء، وزهدت إحداهنّ بالشُّفوف.
** المتاحف هنا رمزٌ لما يَهدي إليه التكوينُ «التربويُّ» و»التُّرْبيُّ»؛ ففي الناسِ من تعنيه اللوحة، وفيهم من تُبهره نقطةٌ أو لقطة، ومنّا من يُصدرُ عن رواء، وفينا من يُوردُ عن جُفاء، ويستهوي بعضَنا فنجانُ شاي، وتُرضي سوانا موائدُ الأثرياء، وهذه هي المسافةُ الفاصلةُ بين مقعدٍ قصيٍ على كرسيٍ خشبي، وصورةٍ بهيَّة بخلفية زجاجية، وهي نفسُها الفارقةُ بين طباع البشر وأطماعهم، وبين من يُخضعُ ذوقه للسائد، ومن لا يتوارى عن التقاطةٍ استرخاءٍ فوق حصيرٍ ممزق.
** لم تنكشفْ سوءاتُ العقولِ كما انكشفت اليوم بتبرعٍ سخيٍ من ذويها؛ فلم يَخفَ داخلُها، وشهدنا منهم من يظنُّ قيمتَه في مركبه ومظهره ومن يثق بأنها في قِيمِهِ ومخبره، والخلاصةُ أننا نحنُ نحنُ؛ فلا نمثلُ سوانا، ولا نتمثلُ بهم، وهو منهجٌ معرفيٌ وسلوكيٌ حاسم كي لا نستعير لوجوهِنا وجوها.
** الذاتُ لا تُستبدل.