د.محمد شومان
ظهرت أدبيات كثيرة حول محو الأمية الأبجدية، ومحو أمية الحاسوب، ومحو أمية الإنترنت، ثم ظهر مصطلح محو أمية الوسائط المتعددة Multimodal literacy بمعني القدرة على قراءة محتوى الوسائط المتعددة والمشاركة في إنتاج أو تعديل هذا المحتوى.
ويرجع الفضل في صك المصطلح محو أمية الوسائط المتعددة عام 2003 إلى جيويت وكريس، ويكمن خلف المصطلح فرضية أن فكرة معرفة القراءة والكتابة يجب إعادة تصورها من أجل تلخيص مجموعة متنوعة من أنماط صنع المعنى، التي تلعب دورًا خاصًا في الوسائط المتعددة الإلكترونية أو المطبوعة. وقد فرضت التطورات التكنولوجية تطوير مهارات القراءة والكتابة التي تتجاوز ما هو معروف في التعامل مع سائل الإعلام التقليدية، وفي تعليم اللغة والامتحانات وتلقي الفنون.
والفرضية الثانية أن ممارسات اللغة ومعرفة القراءة والكتابة كانت دائمًا متعددة الوسائط، لأن التواصل يتطلب الاهتمام بأنواع مختلفة من المعاني، سواء كانت من الكلمات المنطوقة أو المكتوبة، أو الصور المرئية، أو الإيماءات، أو الموقف، أو الحركة، أو الصوت، أو الصمت. ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن وسائل الإعلام الرقمية والإنتاج النصي، التي يحركها الناس أدت إلى زيادة هائلة في تداول النصوص متعددة الوسائط في البيئات الرقمية الشبكية. لقد أصبح إنتاج النص متعدد الوسائط جزءًا أساسيًا من الحياة اليومية لكثير من الأشخاص على مدار حياتهم، وعبر الثقافات والمجتمعات. وذلك نتيجة سهولة إنتاج ومشاركة الصور الرقمية والموسيقى وألعاب الفيديو والتطبيقات والوسائط الرقمية الأخرى عبر الإنترنت وتقنيات الهاتف المحمول.
ولكن قبل أن أتعرض لكيفية وفوائد محو أمية الوسائط المتعددة، أود توضيح ما المقصود بالوسائط المتعددة، فهي أولاً دراسة كيفية صنع المعاني، في سياقات محددة، بوسائل مختلفة للتعبير أو «أنماط سينمائية» - سواء تم التعبير عنها بواسطة الجسد (الكلام، الحركات، تعابير الوجه، الإيماءات وما إلى ذلك) أو مع مساعدة الأدوات والمواد (الكتابة والرسم وصنع الموسيقى وما إلى ذلك). وهي ثانيًا: دراسة الطرق التي يمكن من خلالها دمج الأنماط السيميائية المتعددة في نصوص متعددة الوسائط متماسكة، لذلك فان دراسة تعددية الوسائط لا تقتصر على «الوسائط المتعددة» بمعنى الوسائط الرقمية المعاصرة، ولكنها تنطبق أيضًا على الاتصال وجهًا لوجه وأنواع النصوص غير الرقمية الأخرى.
وصاغ فان لوين وجنتركراس Gunther Kress and Theo van Leeuwen مبادئ أو قواعد التحليل المرئي متعدد الوسائط في كتابهما المشترك قراءة الصورة، الذي يعد أساس نهجهم النظري، والنموذج أو الإطار الذي توصلا إليه لتحليل السميولوجيا الاجتماعية وتعددية الوسائط، وقد صدر لأول مرة في لندن عام 1996، ثم إصدراه عام 2006 بعد عشر سنوات، ولكن بعد أن أضاف إليه بعض الأفكار وناقشا بعض الملاحظات النقدية التي وجهت للكتاب، حيث أكدا أن اللغة والتواصل المرئي يدركان نفس أنظمة المعنى الأكثر جوهرية والبعيدة المدى التي تشكل ثقافاتنا، ويلاحظ هنا الدور المهم للصور في الصحف والمجلات ومواد العلاقات العامة والإعلانات وأنواع مختلفة من الكتب، وتتضمن هذه الوسائط تفاعلاً معقدًا للنصوص المكتوبة والصور والرسوم الأخرى التي تتحد في تصميمات مرئية عن طريق التخطيط.
ويرفض فان لوين وكراس تحليلات النصوص متعددة الوسائط التي تمنح أهمية للكلمة المكتوبة على حساب الوسائط المرئية، التي تتعامل معها كما لو كانت الصور تشكل وضعًا سيميائيًا أدنى من اللغة المكتوبة، وذلك على نحو ما ذهب «رولان بارت»، حيث يرى أن معاني الصور مرتبطة دائمًا بالنص اللفظي وتعتمد عليه بمعنى ما، أي أن الصور وحدها متعددة المعاني « وللوصول إلى معنى محدد، يجب أن تقوم اللغة بذلك. ويذهب فان لوين وكريس أن النص متعدد الوسائط باستخدام الصور والكتابة قد يحمل معاني مختلفة بل متضاربة.. وقد تنقل الكتابة مجموعة واحدة من المعاني وتنقل الصور المعاني الأخرى. ويتضح هذا جيدًا في ظروف فرض أنواع من الرقابة.كما لاحظ لوين وكراس تحركًا نحو تقليل الاعتماد على اللغة وزيادة التدوين والتحكم في المرئي في أنواع مختلفة من النصوص - الكتب والأفلام وأشكال أخرى من اللغة العامة. ومن المثير للاهتمام، أن هذا التحول تم الاعتراف به أيضًا في مجالات بحثية أخرى، مثل الدراسات الثقافية، حيث يتم استبدال التركيز على تحليل «ما يقوله النص» بالتركيز على «كيفية قراءة الجماهير المختلفة للنص نفسه، من هنا بدا واضحًا أن العالم الذي يتم تمثيله بصريا في وسائل الإعلام، هو عالم مختلف، وينتج مواطنين مختلفين، وهو مختلف أيضًا عن العالم الذي كان ممثلاً في اللغة فقط. من هنا تثير التغييرات في الأنماط السيميائية بالضرورة أسئلة حول الطبيعة المتغيرة للمجتمعات، حيث إن حجم وطبيعة المعلومات قد أصبحا هائلين ومعقدين للغاية، لدرجة أنه ربما يتعين التعامل معهما بصريًا، لأن الكلام اللفظي لم يعد مناسبًا.
القصد أن السميولوجيا الاجتماعية وتعددية الوسائط، التي اجتاحت وسائل الاتصال والتواصل الاجتماعي والتعليم والفنون فرضت التوجه نحو مصطلح محو الأمية في التعامل مع الوسائط المتعددة، كما أكَّدت أيضًا ضرورته، وقد اهتمت مجموعة لندن الجديدة New London Group بدراسة محو أمية الوسائط المتعددة في مجال التعليم، ومن أبرز المنتمين الي هذه المجموعة جونتر كراس، وجيمس جي، والآن لوك، وماري كالانتزيس وآخرون، بينما اهتم فان لوين بوسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي والفنون، كما اهتم اوتول وجيويت وآخرون بموضوعات مختلفة.
وبكلمات بسيطة فإن محو أمية الوسائط المتعددة هي عملية مرنة ومستدامة لمجموعة من القدرات المستخدمة لفهم النصوص متعددة الوسائط. ويعتقد فان لوين أن محو الأمية الوسائط المتعددة يتطلب:
1- معرفة نصية وسياقية، أي فهم القواعد المرئية، إضافة إلى فهم القواعد أو الأعراف التي تحكم استخدامها في سياقات محددة.
2- تتضمن القراءة متعددة الوسائط أيضًا بعدًا جماليًا، بمعني القدرة على إنتاج وتقدير كل الأشكال الفنية كاللون والتخطيط الخ التي تنتشر في الفن ووسائل الاتصال المختلفة.
3- وأخيرًا، يتضمن بعدًا تكنولوجيا حاسما، يتعلق بالطريقة التي تفضل بها التكنولوجيا الرقمية المعاصرة، أو حتى تفرض، طرق الاتصال.
ويفترض فان ليون أن الشكل الأحادي «monomodality»ساد الثقافة والفنون الغربية، (ومع ذلك كان يحتوي على تعددية ما، حيث كانت تستخدم المسافات والحروف وعلامات الترقيم) ثم بدأ الاتجاه إلى تعدد الوسائط بالتجارب الطليعية في مجال الفنون أوائل القرن العشرين، خاصة في المسرح، لكن من وجهة نظري أرى أن مقاربة فان لوين أسيرة للثقافة الغربية، حيث لم تشمل مقاربته الثقافات الأخرى كالثقافة الصينية أو الفارسية أو العربية أو الهندية وغيرها من الثقافات، التي مزجت بين الكتابة والرسم والتلوين، وربما احتوت على تعددية أغنى من الثقافة الغربية، الأمر الذي يشجع باحثين من هذه الثقافات غير الغربية لدراسة نشأة وتطور تعددية الوسائط من منظور ثقافي، وقد تضيف أو تعدل مساهماتهم من افتراضات وأفكار فان لوين.
ومنذ عشرينيات القرن الماضي فصاعدًا، أصبح الإعلام متعدد الوسائط بشكل متزايد، فقد تطورت الطباعة والمجلات، وأصبح الفيلم شكلاً فنيًا متعدد الوسائط بامتياز. وفي الآونة الأخيرة، أصبحت الأنواع التي كانت تقليدية سابقًا مثل الكتب المدرسية والوثائق التي تنتجها الشركات والجامعات والإدارات الحكومية متعددة الوسائط، كما أن العروض المتعددة الوسائط للتقنيات الرقمية في كل مكان، وجعلت برامج مثل Word وPowerPoint تصميم النص متعدد الوسائط في متناول الجميع.
ويخلص فان لوين إلى أن معرفة القراءة والكتابة متعددة الوسائط هي القدرة على استخدام ودمج الأنماط السيميائية المختلفة بطرق مناسبة لسياق معين، مع معرفة ما يمكن القيام به باستخدام أنماط السيميائية المختلفة، والطرق التي يمكن بها دمجها في نصوص متعددة الوسائط؛ ومع ذلك، فإن محو أمية الوسائط المتعددة يتطلب أيضًا، وبنفس القدر من الأهمية، فهم السياقات المجتمعية والقدرة على الاستجابة بشكل خلاق للمتطلبات الفريدة لمواقف معينة.
هكذا أصبحت القراءة والكتابة متعددة الوسائط مجال عمل مهمًا ومهارة حياتية، لا تتطلب فقط معرفة عملية بالطرق متعددة الوسائط لصنع المعنى، ولكن أيضًا القواعد والأعراف لاستخدام المعنى متعدد الوسائط الذي ظهر في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، واعتقد أن أفكار فان لوين لا تكتمل إلا بالإشارة إلى جهود الباحثين الآخرين في مجال محو أمية الوسائط المتعددة في مجالات التعليم المختلفة بما فيها التعليم الأساسي والجامعي وتعليم الفنون، إذ قدموا مقترحات مهمة يجد بعضها صدى وتأثيرًا إيجايبا، في تطوير برامج التعليم واعتمادها على الوسائط المتعددة. من هنا فإن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح في مجتمعاتنا العربية، هو كيف نمحو أمية الوسائط المتعددة عند كبار السن، لا سيما في تعاملهم مع الإعلام ووسائل التواصل؟ لأنني أظن أن أحد أسباب فوضي فضاء وسائل التواصل في المجتمعات العربية يرجع للجهل بقواعد وأسس التعامل مع الوسائط المتعددة، وغياب الأخلاقيات والتشريعات المنظمة. وهي أمور لا بد من تداركها، علاوة على التفكير في كيفية الدمج بين الفن والإعلام (التواصل) في المناهج الدراسية، وفي الدمج بين الاتصالات الوظيفية والجمالية.