د.محمد بن عبدالرحمن البشر
شاعران استثنائيان، أبوالطيب المتنبي في العراق بالمشرق الإسلامي، وأبوالوليد بن زيدون في الأندلس في أقصى المغرب الإسلامي، ويشتركان في بعض الظروف، ويختلفان في أخرى، فكلاهما شاعر مميز مؤثر ومتأثر بما حوله من أحداث في المجال الثقافي والسياسي، وولدا في قرن واحد هو القرن الرابع الهجري، فقد ولد أبو الطيب المتنبي في بداية القرن عام 303 هجرية، بينما ولد ابن زيدون نهاية القرن في عام 394 هجرية، ومن الغريب أنهما عاشا في فترة من الاضطراب السياسي، سواء في المشرق أو في المغرب، ففي المشرق كانت دويلات كثيرة، تحكم كل منها منطقة من مناطق المشرق، وتحت مظلة الخليفة العباسي، الذي ليس له من الأمر حل ولا عقد، فهناك دولة البويهيين في بغداد، وبني حمدان في الموصل وحلب، والقرامطة في الأحساء والبصرة، والاخشيد محمد بن طغج في مصر والشام، والفاطميين، وابن رائق، والبريدي، والأتراك، وغيرهم في فترات مختلفة، أما في الأندلس فلم تكن حالها بأحسن من المشرق الإسلامي، ففي الفترة التي عاش فيها ابن زيدون، شهدت بداية انتهاء الحكم الأموي المباشر، ثم الاسمي من خلال الحاجب محمد بن أبي عامر، وأولاده من بعده، ثم ظهور دويلات الطوائف بعد الفتنة القرطبية، التي يتهم ابن زيدون بأنه أحد موقدي نارها، ومؤججي سعارها، فأضحت قرطبة تحت حكم بني جهور، واشبيلية تحت حكم القاضي محمد بن إسماعيل بن عباد، وبطليموس يحكمها بنو الأفطس، وطليطلة يحكمها بنو ذي النون، وغيرها كثير، ومن غريب التوافق بين المتنبي وابن زيدون، أن بغداد عاصمة الخلافة، كان يحكمها فعلياً في فترة من حياة المتنبي، أي ابتداء من عام 334 هجرية، عائلة فارسية اثني عشرية المذهب، وهم البويهيون، وفي قرطبة عاصمة الخلافة الأندلسية، كان يحكمها بني جهور ابتداء من عام 421 هجرية، وهي عائلة فارسية الأصل، كما يقال، كانوا من الموالي العريقين في الأندلس، مالكيي المذهب.أبو الطيب المتنبي ولد في عائلة فقيرة، ربته جدته لأمه، وهو ابن سقاء، عاش في بلدة اسمها كندة، بالقرب من الكوفة، وكان يسكنها العلويون، أما بالنسبة لنسبه، فلا أحد يعرف ذلك، وهو أيضا لم يصرح أو يذكر ذلك أبداً، لا في شعره، ولا في نثره، ولا إلى من حوله، وقد قال عنه المؤرخون إنه جعفي، وقال آخرون، وقد التبس عليهم الأمر انه كندي، ولم يفرقوا بين النسب الذي ينتمي إلى كندة القبيلة العربية العريقة، ونسبه إلى البلدة التي عاش فيها، وي كندة، القريبة من الكوفة، أما طه حسين فهو يذكر انه لقيط بغية، ليس له أصل، ولا يعرف أباه، بينما يذكر محمود شاكر أنه علوي، وبقدر الاختلاف في النسب، كان الاختلاف في المذهب، ما بين سني، واثني عشري، وفاطمي، وقرمطي وقد سجنه العلويون سنتين لادعائه النسب العلوي.
في المقابل نجد أن ابن زيدون عاش في بيئة ثرية جدا من حيث الأب والأم، فوالده عريق النسب مخزومي قرشي، من علماء الأندلس الفضلاء، وتولى مناصب في قرطبة، وهو ثري ثراء كبيراً، وله علاقات مميزة مع الحكام، وأصحاب القرار في قرطبة آنذاك، ويستشيره العلماء، أما والدته فهي قيسية عريقة النسب، مثل أبيه، والدها من علماء الأندلس وفضلائها، تولى القضاء، وكان شديد الحزم في قضائه وحياته، وقد رباه جده هذا بعد وفاة أبيه، وهو في الحادية عشرة من العمر، وكان حازماً معه، ومذهبه مالكي أباً عن جد.
في مجال الطباع، يقول علي بن حمزة البصري المتوفى عام 375 هجرية، (بلوت أبي الطيب ثلاث خلال محمودة، ذلك أنه ما كذب، ولا زنى، ولا لاط) وقال ابن فورجة (ليس فيه ما يشينه ويسقطه، إلا بخله، وشرهه على المال) وعلي بن حمزة هذا صديق للمتنبي، ونزل المتنبي بداره بعد قدومه من مصر، وهروبه من كافور، ولهذا فهو يخبره جيداً، ولأنه صديقه فقد ذكر خلاله المحمودة، وليس كل خلاله بما فيها غير المحمودة، وما قال فيه من خلال محمودة، فهو حق ولا ريب، فهو ذو مروة، جاد، منصرف عن اللهو، وضياع الوقت بين الوتر والقيان، والكأس والغلمان، لكنه كان متكبراً، يزهو بنفسه، ينظر بتعال مفرط إلى غيره، ما عدا الملوك ومن في حكمهم الذين يختارهم للمدح، نظير المال والجاه.
في المقابل نجد أن ابن زيدون لا يطمع في المال، فهو ثري ابن ثري، ولا ينشد مكانة اجتماعية فهو سليل أسرة عريقة، لكن ما يحتاجه هو الجاه، والمنصب، والتأثير في سير الأحداث، وقد بلغ ما أراد، فقد أصبح وزيراً في قرطبة، وذا الوزارتين بعد هروبه إلى اشبيلية، كما أنه في آخر عمره سعى إلى اسقاط قرطبة وحكم بني جهور الذين سجنوه خمسمائة سنة، خوفاً منه، وتحقق له ما أراد، فسقطت قرطبة بفضل دهائه في يد اشبيلية، وهناك الكثير مما يمكن قوله، لكننا اكتفينا بما ذكرنا لعل مقالاً آخر يتطرق إلى ما لم يذكر.