د.سالم الكتبي
من خلال متابعتي لتطورات الأحداث في لبنان طيلة الفترة الماضية، ولا سيما ما يتعلق بالتعاطي مع أزمة تصريحات جورج قرداحي، يتضح لي، ولغيري، أن أكثر ما يفتقر إليه لبنان سياسياً هو الدولة بمفهومها السياسي الاصطلاحي المتعارف عليه في العلاقات الدولية؛ فالدولة اللبنانية موجودة ولا شك في ذلك ولها كيان وسيادة ونفوذ يحترمه ويحرص عليه أشقاء لبنان العرب جميعاً، ولكن الحاصل فعلياً أن هذه «الدولة» تبدو غائبة أو «مغيبة» بفعل فاعل، والفاعل في هذه الحالة معروفاً، ويعمل طيلة الوقت على تآكل نفوذ دولته من خلال القفز على دورها ومسؤولياتها الوطنية، والظهور بمظهر الدولة الموازية تارة، أو اتخاذ قرارات وتبني مواقف سياسية وعسكرية تقع في صميم اختصاصات الدولة وهياكلها ومؤسساتها الدستورية المتعارف عليها تارة أخرى.
جوهر أزمة تصريحات الوزير قرداحي - على سبيل المثال - تكمن في غياب دور الدولة أو ضعف هذا الدور وتراجعه وانحساره لدرجة لا يكاد يرى معها هذا الدور في حسم مثل هذه الأمور بالسرعة والحسم الذي تستحق، فما حدث من الوزير اللبناني لا يتعلق بالديمقراطية وحرية التعبير بقدر ما يتعلق بغياب المهنية وسعة الأفق فضلاً عن علامات الاستفهام العريضة التي يثيرها ذلك بشأن سيادة الدول وقدرتها على إدارة الأزمة خصوصاً إذا ارتبطت بشخص وزير أو مسؤول حكومي كبير؛ فعلي سبيل المثال نجد أن رئيس الوزراء نجيب ميقاتي قد أكد مراراً وتكراراً حرص بلاده الشديد على علاقاتها مع دول مجلس التعاون، ومع ذلك نجد هذا الوزير «يناشد» أحد وزراء حكومته الاحتكام إلى «ضميره» وإعلاء مصلحة البلاد، وهو هنا ربما يشير ضمناً إلى «الاعتذار» أو «الاستقالة»، أو ربما خيارات أخرى لا نعلمها ولكنه في جميع هذه الأحوال لا يمتلك أي قدرة على إسدال الستار على أزمة كان لبنان وشعبه في غنى عنها لو أن هناك قدر من تحمل المسؤولية وعدم المكابرة والعناد.
جورج قرداحي ليس سياسياً ولم يمارس السياسة بتعقيداتها وحساسياتها المعروفة، وهناك العديد من الأمثلة والشواهد على محدودية قدرته الشخصية على فهم الفوارق الفاصلة بين العملين الإعلامي والسياسي، وبين «العام» و»الخاص»، لذا فقد تمسك بمصلحته الشخصية الضيقة وآثر المضي في توسيع دوائر الأزمة والمزايدة على «وطنية» الجميع وهو يدرك تماماً مدى حساسية اللحظة الراهنة في التاريخ اللبناني، وما يتطلبه ذلك من ترفع عن العبث بمصائر الشعوب.
حتى الإعلام الذي يعد قرداحي أحد لاعبيه المميزين في العالم العربي، حتى لو من باب تقديم برامج المسابقات، لم يكن الوزير اللبناني على دراية كافية بأبعاد الحديث في قنواته ولم يراع التشابكات والتعقيدات التي تخيم على فضاء العلاقات العربية ـ العربية وهو يبدي رأياً سياسياً بامتياز والأخطر أن رأيه قائم على قناعات مغلوطة سعى من خلالها إلى الظهور بمظهر المدافع عن الحريات والحقوق!
نعم، الأزمة لا تتعلق بقرداحي فقط، فعلى سبيل المثال، نجد أن وزير خارجة لبنان عبد الله بوحبيب يقول إن المملكة العربية السعودية «تملي شروطاً مستحيلة» على بلاده من خلال مطالبة الحكومة بالحد من دور جماعة «حزب الله» الذي لا يكف عن إعلان موالاته للنظام الإيراني، والأغرب من ذلك أن الوزير اللبناني يقول إن حزب الله لا يهيمن على البلد، وأنه «مكون لبناني يلعب سياسة... لديه امتداد عسكري إقليمي، لكنه لا يستخدمه في لبنان»، وهو كلام يعرف الوزير اللبناني جيداً أنه عار من الصحة وبعيد عن الحقيقة، فليس هناك من يصدق أن الحزب يلعب سياسة فقط، وليس هناك من يمكن أن يقتنع بأن ميلشيا «حزب الله» لا تزج بقوتها العسكرية في أتون اللعبة السياسية اللبنانية، والأمثلة على ذلك كثيرة ويصعب حصرها ويعرف جيداً كل اللبنانيين، ولو أن الحكومة اللبنانية تصدق ما يقوله وزير الخارجية فلماذا تعد الحد من هيمنة الحزب على مقدرات الدولة اللبنانية مسألة مستحيلة كما يقول عبد الله بوحبيب وزير الخارجية! وهل نسي السيد بوحبيب أم يتناسى تلويح حسن نصر الله مؤخراً بـ100 ألف مقاتل مدربين ومسلحين في وجه خصومه السياسيين على الساحة اللبنانية، وكيف يفكر الحزب في اقصاء شركاء الوطن أو إخضاعهم لقراره بقوة السلاح والترهيب، وهل هذه «البلطجة» تندرج ضمن اللعب السياسي وفق منظور وزير الخارجية اللبناني؟ كلنا يعرف تاريخ «حزب الله» الأسود منذ ظهوره قبل عقدين من الزمن، وكلنا على اطلاع على ملف جرائمه الآثمة بحق لبنان واللبنانيين فلماذا المراوغة والتهرب وتغليب الكراسي والمناصب على مصالح الأوطان؟!
ما يدهشني أن قدرة الوزراء اللبنانيين على تعميق الأزمة وتعقيدها تبدو أكثر بكثير من السعي إلى حلها، فالوزير بوحبيب يقول إن هناك «مشكلة كبيرة» وأنهم «يريدون فقط رأس حزب الله ونحن لا نستطيع أن نعطيهم إياه»، وهذا نوع من محاولة خلط الأوراق والمغالطات والمزايدات التي تتسبب في توسيع هوة الخلاف، فلا أحد يريد «رأس الحزب» كما يزعم الوزير بوحبيب، ولا أحد يريد التدخل في شؤون لبنان لأن العواصم العربية التي يقصدها لا تمتلك رفاه الخوض في صراعات أي بلد عربي لاسيما لبنان بكل تشابكاته وتعقيداته الإقليمية والدولية، ولديها ما تسعى لانجازه بسرعة على الصعيد التنموي والاقتصادي، وكل ما يريده العرب جميعاً أن يتخلص لبنان وكل بلد عربي مماثل من الجماعات والميلشيات والأحزاب العابرة للحدود وكل أشكال الولاءات الخارجية التي تسببت في خراب هذه الدول وتعطيل مسيرتها لسنوات طويلة مضت، وانطلاقاً من أن الأمن والاستقرار الاقليمي يتطلب تقليم أظاهر القوى التوسعية التي يعرف الجميع حدود ومظاهر وأهداف علاقاتها الكارثية مع أذرعها الطائفية والميلشياوية سواء في لبنان أو اليمن أو غيرهما من الدول العربية.