د. عبدالحق عزوزي
بحضور الرئيس جو بايدن وزوجته جيل وعدة رجالات دولة كبار، كرمت الولايات المتحدة منذ أيام «الجنرال- الدبلوماسي كولن باول في جنازة وطنية في كاتدرائية واشنطن، وباول هو أول وزير خارجية أمريكي من أصل إفريقي وتوفي في 18 تشرين الأول/ أكتوبر بسبب مضاعفات متعلقة بإصابته بفيروس كورونا، وكان أول أمريكي من أصل إفريقي وأصغر شخص يتولى رئاسة أركان الجيش بين عامي 1989 و1993، قبل أن يصبح أول وزير خارجية من أصل إفريقي في عهد جورج بوش الابن.
ومن بين الكلمات المعبرة تلك التي أدلت بها وزيرة الخارجية السابقة مادلين أولبرايت في حقه والتي جاء فيها أن زميلها باول يتمتع «بالصدق والكرامة والولاء والالتزام الراسخ تجاه وظيفته والوفاء بكلمته». مضيفة مازحة عن كولن باول الذي خلفها في حقيبة الخارجية «كان الجيش يحبه، ويحترمه خصومه، وفي وزارة الخارجية كان أكثر شعبية بكثير من سلفه» في إشارة إلى ذاتها.
ينتمي كولن باول إلى المدرسة المعتدلة، لكن مسيرته الدبلوماسية تلطخت عندما تصدر جهود الترويج لحرب العراق عند توليه وزارة الخارجية؛ كما أنه أسهم في إحداث بون بين الشرعية الدولية القائمة على الحفاظ على النظام العالمي والنظرة الإستراتيجية شبه القانونية التي لا تقوم على نظارات قانونية فلسفية صرفة..
فنتذكر جميع أنه عندما أرادت حكومة بوش الابن التدخل في العراق سنة 2003، رفضت جل الدول الغربية ذلك باسم الشرعية القانونية والدولية وباسم الفلسفة التي يجب أن تصطف فيها الدول في هجوم عسكري ذي أبعاد مجهولة على دولة ذات سيادة. ديك تشيني، دونالد رامسفيلد وكولن باول، كانوا جميعا يقومون برحلات مكوكية إلى العواصم الأوروبية لإقناع رؤسائها ولكن دون جدوى، ونتذكر الخطاب الشهير لكولن باول في قبة الأمم المتحدة وهو يحمل قنينة صغيرة يقول فيها للعالم بأسره لو أنه قام بتفجير هاته القنينة لتبخرت مساحات من الأرض في رمشة عين، وهو ما يستطيع صدام فعله لتوفره على أسلحة الدمار الشامل، وهو ما أنكره عليه وزير الخارجية الفرنسي دومينيك دوفيلبين في نفس الاجتماع لعدم وجود أي حجة، ورفضت بلاده تدخلا عسكريا خارج المادة السابعة من ميثاق الأمم المتحدة، التي تجيز استعمال القوة العسكرية الدولية في حال الهجوم على حدود دولة ذات سيادة من غير حق، أو كونها تشكل خطرا على المنظومة الدولية من خلال امتلاكها مثلا لأسلحة الدمار الشامل... هذا البون الشاسع بين الاتجاه الفقهي القانوني الفلسفي الصرف - والاتجاه الاستراتيجي، أو بعبارة أخرى بين الحفاظ على الشرعية القانونية الدولية وبين القضاء على نظام صدام وأهله، مزق في تلك الفترة أبجديات التفاهم حول محددات النظام العالمي الذي قادته وتقوده الولايات المتحدة الأمريكية إلى درجة أن المسؤولين الأمريكيين وصفوا أوروبا الغربية بأوروبا العجوز خلافا لدول أوروبا الشرقية التي كانت مؤيدة للتدخل العسكري... وتشيني من خلال كلامه هذا كان يعني مما يعنيه خطأ غلبة الخزعبلات القانونية والفلسفية الفرنسية والغربية على أولويات المرحلة في العلاقات الدولية التي تفرض الحركية والواقعية الإستراتيجية اللا قانونية بغطاء شبه قانوني وشبه مرضي... فوقع التدخل العسكري الأمريكي- البريطاني رغما عن الرفض الفرنسي- الغربي والمثبطات القانونية المتنوعة في الأمم المتحدة، والبقية معروفة.
وكولن باول لا يتحمل المسؤولية لوحده، فأساتذة الفن الاستراتيجي المؤهلين، في عهد الرئيس بوش (الابن)، كانوا هم المحافظون الجدد، ومازالت سياستهم الخارجية في تلك الفترة وتدخلهم العسكري دون «نظارات إستراتيجية» دقيقة، تلقي بفاتورتها الثقيلة على البيت الأبيض، والسياسة الخارجية الأمريكية، وعلى مستقبل الأمن القومي؛ فحصل ارتباك في العمل الاستراتيجي، لأن أعضاء فريق الدبلوماسية والأمن القومي يعملون في مستويات مختلفة، وعندهم أدوار مختلفة في الدولة، والهياكل التنظيمية الهرمية، والجميع بحاجة إلى احترام دوره وعمله، من تخطيط وإستراتيجية وسياسة، ليتم التواصل بشكل فعال، ولتبادل المعلومات فيما بينهم، ومع الشعب الأمريكي في نهاية المطاف... وهذا الخلط هو الذي أدى إلى انحراف بعض الأدوار لبعض المؤسسات الأمريكية، وبالتالي إلى ضعف في الإنتاج والمردودية، وهذا هو الجانب الخفي في بعض التقارير الأمريكية، وهذا ما تحذر منه نظريات الإستراتيجية في مجال العلاقات الدولية، وهذا يحيلنا هنا إلى قيمة دور المستشارين في صياغة الإستراتيجية. والسياسة الأمريكية مليئة بالدروس في هذا الجانب.