في عصرٍ تصدّرته أخبار كوفيد 19، ملقيةً بظلالها القاتمة على العالم، وأخبار الاضطرابات في جمعٍ من الدول العربية والإسلامية، نبحث جاهدين عن ما يشيع فينا بعض ملامح البهجة.
تلقّيتُ خبر قرب صدور العدد رقم 700 من المجلة الثقافية، وكان سروري عظيمًا، ابتهاجًا بتلك الشابّة الفاتنة التي استطاعت اليوم أن تأسر القلوب والأقلام. وجدتُ نفسي، تلقائيًا، أقلّب صفحات بعض الأعداد القديمة التي سطرت البدايات الجريئة للمجلة، والكتّاب الذين أمدّوها بإبداعاتهم، ومنحوها بعضًا من أعمارهم، فنَمَتْ وشبّتْ، مانحةً الخلود لهم، والمجد لها. أقلامٌ رحلت، وأقلامٌ حلّت، والمجلة وفيّة للجميع، وأوّلهم ذلك القارئ الجديد، المحاصر بين الأعداد المتناسلة من المواقع والتطبيقات الإلكترونية المجّانية، الحافلة بالجاذب من المعلومات والصور في شتّى المجالات.
في أعوامها الأولى، هناك من كان يشفق على هذه المجلة - التي كانت توزّع كل اثنين مع جريدة الجزيرة - من غياب القرّاء الذين استأثرت بهم القنوات الفضائية ومنتديات الإنترنت. كان ذلك قبل ما يزيد عن 15 عامًا، قبل ثورة الأجهزة الذكية، وقبل التنافس الشديد بين تويتر وإنستجرام وسناب تشات، وزووم ... إلخ!
وها نحن الآن، بعد عشرين عامًا، والعالم يقاوم مخلوقًا لا يكاد يرى، نشهد تغلّب المجلة الثقافية على التحدّيات المادّية التي عادة ما تعرقل استمرارية المنشورات الثقافية، ونرى تفوّقها وذكاءها في تتبّع القرّاء والكتّاب، ونسج تلك الروابط المتينة الخفية بينهم.
ثمة نجاح كبير حقّقته المجلة الثقافية في خدمة الثقافة والفكر الإنساني، وتقديم روائع وإبداعات الكتّاب العرب في شتّى المجالات الفكرية والإبداعية والثقافية. وأصبح لها أهمية كبيرة، ودورًا واسعًا في بناء صلات معرفية بين ملايين القراء في أرجاء الوطن العربي بأسره.
منذ البداية، كانت رسالة المجلة للقارئ واضحة، في أنّها تحتفي بالثقافة بمعناها الشمولي الكبير. فهي ليست مختصة فقط بالأدب ونُخبه، بل تناقش قضايا وأفكار متنوعة تدور في الأوساط الثقافية. هذا الوضوح أبعد المجلة عن النخبوية، وأكسبها قوة وسمعة مرموقة في العالم العربي، تمكّنت به من المنافسة والوصول إلى صدارة المشهد الثقافي العربي على مدار عمرها المديد. اهتمّت المجلة بكل الآداب والفنون والكتابات الإبداعية والنقدية والدراسات، مع تركيزٍ واضحٍ على المشهد السعودي، يهدف إلى فتح نافذة واسعة على إنتاجنا الثقافي والإبداعي، بما يحقّق طموح الكاتب والقارئ المحلي.
أسهمت المجلة في نشر إبداعات قامات الشعر والأدب، وفي الوقت ذاته أفسحت صفحاتها إلى الكتّاب والكاتبات الجدد، ممّا أدّى إلى بناء جسور بين الأجيال، وإتاحة المجال للنقد البنّاء الهادف بما يخدم المشاركين في المسيرة الثقافية الإبداعية.
وبوعي القائمين عليها وكفاءتهم، نجحت المجلة في سعيها وراء الأسماء المرموقة في الوسط الثقافي العربي، واستكتبتهم. كما تمكّنت من مواجهة التحدي المتمثّل في الصمود والتميّز أمام اكتساح المواقع الثقافية الإلكترونية وقدرتها على جذب القارئ والاحتفاظ بولائه الدائم والمتجدّد.
لم أكن ضمن كتاب المجلّة في بداياتها، ولكنّني الآن فخورٌ للغاية بأن جمعتني بهم اليوم صفحات هذه المجلة في تاريخها المشرق الخالد.
** **
د. عبدالله محمد الطيب - قاص وروائي ومترجم - المدينة المنورة - أكتوبر، 2021