د.سهام صالح العبودي
الطموح إضناءٌ كما هو إغناءٌ؛ فالروح التي تستبق خطواتها بالنظر بعيدًا في دروب لم تطرق هي روح قلقة، مشرئبَّة الرؤية أبدًا. ولكن هل يشكَّنَّ أحدٌ أنَّ هذا التوقُّد هو الذي يدفع بالعالم - كلَّ مرة - مسافة عن المكان الذي كان فيه؛ كي يستكشف مقاصد جديدة، وأراضي فكرٍ بكراً، وسقوفًا أعلى، ومراميَ لا تزال سهام العقول تُريَّش كلَّ لحظة استبقاءً لفرصة اقتناصها الممكنة؟!
اليوم تكمل (الثقافية) بناء سقفها السابع: مثالًا مثاليًّا على توقُّدٍ وضَّاء يحتفي بالإبداع والثقافة والمعرفة، وعمَّا قليل - حين تبدأ رحلة صفِّ العدد الأول بعد السبعمائة - سيكون الطموح مستشرفًا متعاليًا راكضًا مسافة أبعد إلى السماء!
منذ تدشين (الثقافية) عددها الأول يوم الاثنين 3-3-2003م وهي تضطلع بدورها: مساحة تعيش فيها قبيلة من العقول التي تتجاور وتختلف في فضاءات مقاصدها الفكرية واتجاهاتها، لتكون بعد مسافة سبعمائة عددٍ جزءًا من ذاكرة الثقافة السعودية، تُستذكر حين تؤرَّخ هذه الثقافة، وجزءًا من تدوين العالم، ومن كتاب الإنسانية الكبير، في تلك الكلمات يبقى التاريخ الثقافي محفوظًا بين دَفَّتي فعلٍ ثقافي واعٍ ومسؤول، في تلك السطور.. آلاف السطور سنجد نسخًا من الحياة خالدة في نص، أو في قراءة ترحل إلى أقاصي المعنى.
لم أنتمِ إلى الجزيرة الثقافية كاتبةً أول أمري، لكني مُنحت شرف الوجود فيها حين أكرمني الشاعر الكبير محمد جبر الحربي بمقال من جزأين في زاويته (أعراف) العام 2005م، مقالتين علامتين في مقتبل عهدي بالكتابة، وما زالت جذوة تلك الهبة مشتعلة تمتح منها روحي دون شبع، وما زال طعم ذلك البدء الأثير في فم تجربتي حلوًا لم يتغيَّر. كم كانت نصوص مجموعتي الأولى (خيطُ ضوءٍ يستدق) محظوظة حين مسَّتها يد الشاعر! وكم كانت روحه كريمة حين تلقَّاها بعقله وذائقته، ثمَّ أودعها كلماته!
واليوم أكتب غير منتظمة في هذه المساحة الخصبة، متنعِّمة بشرف مجاورة العقول والأرواح ومحاورتها، ليكون هذا المكان صوتي وذاكرتي، وأرى - في امتداد الزمن - كيف ينمو الكاتب ويختلف ويلتقي بنفسه بعد مسافة من الكلمات، مسافة يقرأ نفسه فيها ويقرأه فيها آخرون، فيغنى ويمتلئ ويصعد مستوقدًا من أرواحهم وكلماتهم ضوءًا لرحلته.
أما الروح العازفة على مقام الرحلة، والعقل الذي يدير هذه المساحة من الفكر والإبداع والجمال فهو أستاذنا الدكتور إبراهيم التركي مدير تحرير صحيفة الجزيرة للشؤون الثقافية، الذي ما يفتأ يعيد تشكيل فسيفساء التنوع فيها مباغتًا قارئها كل أسبوع بلوحة جديدة، لوحة من الكلمات تشير إلى الحياة، وتتودد إلى الأمل، وتقترح حلولًا لأسئلة الوجود، وتنشغل بالقيم العليا، وتمنح العقل مساحة كي يلتقي بخلاصات العقول.
الكتابة مكانٌ لا تغرب شمسه، وهندسة الفكر لا تحفل أين يقع معمارها: متورقًا كان أم رقميا، ما دام زائروه حاضرين وراغبين. واليوم - وإن غدت وجوه الثقافة وسائطية - فإنَّ ذلك لا يمس شيئًا من مقام الكلمة، ولا يحجب قدر أنملة من مكانتها، فالرواحل تتعدَّد، لكنَّ الرحلة لا تموت، و»الجزيرة الثقافية» باقية تفرد أجنحتها في كل سماوات الوصول الممكنة، وفي كل مرة تتجاوز سقفًا أعلى من سقوف طموحها، فإنَّ كثيرين يتطلَّعون أن يتجاوزوا أسقفهم الخاصة الشخصية كي يصعدوا معها كلَّما تصعد!