عبدالخالق بن عبدالجليل الجنبي
لا تخلو بعض الوثائق من وجود أخطاء وأغلاط، فكاتبوها بشرٌ، والبشر يخطئون، ولاسيما إذا كان كُتّاب هذه الوثائق منحدرين من طيف ثقافي يختلف عن المكان الذي كتبوا عنه اجتماعياً وعُرفياً ولغوياً، وهذا أمرٌ لا لبس فيه، ولكن الأمر الذي فيه اللبس كله هو فرض الباحثين لتصحيحاتهم لهذه الأخطاء الواردة في الوثائق - إنْ كانتْ أخطاءً - على قرّاء بحوثهم بتغييرهم لنصّ الوثيقة الأصلي عند ترجمته، أو تدوينه بالصيغة التي يرون صحتها؛ في حين إنّ ذلك ينبغي أن يكون في الحيّز الخاص بهم كباحثين، وهو الهوامش والحواشي.
ومن الأمور التي يجب أخذها في الاعتبار في هذا الشأن هو النظر إلى تصحيحات الباحثين هذه على أنها آراء خاصة بهم قد يصيبون فيها وقد يخطئون، ولهذا كان من الأسلم والأصحّ - وفق منهج البحث العلمي - أنْ يُدْرِجَ الباحثُ نصّ الوثيقة التي يستند إليها كما كُتبَ فيها، وأن يوضح في الهامش ما يرى صحته وخطأه في النصّ لأنه ليس بالضرورة أن يكون ما رآه خطأ هو خطأ بالفعل.
إنّ الباعث لكتابة هذه المقدمة وهذا البحث هو أنه عندما تفضّلَ علي أستاذنا المختصّ بوثائق الأرشيف العثماني الدكتور محمد بن موسى القريني -حفظه الله- بالصفحتين 557، 558 من دفتر المهمة رقم (3)، وهما عن الحكم رقم (1633) الصادر إلى متصرّف الأحساء بتاريخ 22 صفر من عام 968 للهجرة بخصوص ما بدر من بعض قادة بني خالد ضد الدولة في الأحساء والقطيف ذلك العام مع ترجمة له باللغة العربية فوجئتُ عند قراءة هذا الحُكم بورود اسم (حُمَيْد بن سَعْدُوْن) الجدّ الأعلى لآل حُميد الخالديين فيها.
وكنتُ قد اطلعتُ على محتوى هذا الحكم كنصٍّ مقتبس عن هذه الوثيقة من خلال بحثين مطبوعين؛ هما كتاب: (بنو خالد وعلاقتهم بنجد) للدكتور عبد الكريم بن عبد الله المنيف الوهبي، وكتاب: (البلاد العربية في الوثائق العثمانية) للدكتور فاضل البيات؛ غير أنّ هذين الباحثين الفاضلين لم يذكرا ما ورد في نصّ هذه الوثيقة كما كُتب فيها حرفيّاً؛ بل إنهما دَوّناه بالصيغة التي ارتأيا أنها هي الصواب، فكتب الدكتور الوهيبي في الصفحة: 129 من كتابه المذكور أعلاه عن الأمن في الأحساء وحركة سعدون الخالدي، فقال:
«ومع أنه أعلن عن فرض النظام إلا أنّ ذلك انحصر فيما يبدو على إبعاد الخطر عن مدينة الأحساء والقلاع المجاورة، فقد استمرت ثورة سعدون حتى 22 صفر 968هـ/ 14 نوفمبر 1560م، فقد جاء ضمن وثيقة بهذا التاريخ موجهة إلى حاكم عام الأحساء تتضمن أمراً من السلطان باستمرار سجن كل من عثمان بك وحسين دفتردار، وتحصيل ما في حوزتهما من الأموال والأمر بالقضاء على كل من يؤيد أو يتعاون مع سعدون، ومن بينهم آغا تكلو الذي حاول برجاله أيضاً إطلاق سراح المسجونين السابقين وإيصالهما إلى جهة سعدون، وكذلك سلطان علي أمير لواء القطيف المتفق مع المتمرّد سعدون بن حميد».
ثم ذكر في الحاشية السفلية رقم (3) مصدره في قوله هذا كما يأتي:
«مهمة دفتري 3 حكم 1633 بتاريخ 22 صفر 968هـ».
وهي ذات الوثيقة التي أشرتُ إليها أعلاه، وليلاحظ القارئ أنّ الدكتور كتب في آخر سطر: «سعدون بن حميد»، وهو لم يرد بهذه الصورة في هذه الوثيقة كما سنرى. وأما الدكتور فاضل البيات فإنه ذكر في الصفحات: (53 - 56) من الجزء الثالث من كتابه (البلاد العربية في الوثائق العثمانية) ترجمة كاملة لهذا الحكم الطويل؛ كتبها باللغتين التركية والعربية نقلاً عن صورة الوثيقة ذاتها، وأنقل هنا مقتطفات من ترجمته العربية مما يتعلق بخصوص سعدون وهو كما يأتي:
«.. سبق أن ورد حكمٌ شريف يقضي باحتجاز أمير سنجق العُيون عثمان، وأمين الأمناء حسين في القلعة، فتمّ احتجازهما في القلعة، وتم وضع آغا (آمر) الخمسين نفراً تكلو مع أفراده حرّاساً عليهم؛ غير أنّ تكلو قام بتعيين المدعوَّين شمس دلال وبورونسز جعفر، وكانا قد قدما من ولاية اللار بعربستان دليلين للمذكورين لغاية وصولهما إلى جانب سعدون وملك اللار».
ثم قال بعد كلام طويل:
«كما أبلغتُ بأن بعض الأشخاص في تلك الولاية قد ساروا على نهج البدو، ورفعوا لواء العصيان، وأعلنوا طاعتهم لسعدون، وينبغي أن يتم تأديب مثل هؤلاء الأشخاص، وبناءً عليه عليك ألا تفسح المجال لمن استحقوا الصلب والإعدام بحسب الشرع والقانون لإثارتهم الفساد والشناعة (الاضطرابات)، وتؤدبهم في محلهم ليكونوا عبرةً لغيرهم.
وأُعْلِمْتُ أنه لم يتم النظر في حسابات أمير سنجق القطيف سلطان علي بك، وقد ترتب بذمته من المال الميري مائتان وثلاثة وثمانون ألفاً وتسع وثلاثون آقجه، وعند الطلب امتنع عن التسديد، وأنه تحالف مع البدو ويأكل المال الميري ويخفيه، وأنّ معظم أغاوات أفراد القطيف من العجم، وهو (سلطان علي بك) يقوم بإلحاق الظلم بالفقراء بلا هوادة، ويقدم مؤناً غذائية للمتمرّد سعدون بن حميد».
ويلاحظ القارئ أنّ الدكتور فاضل بيات كتب اسمه: سعدون بن حميد أيضاً كما كتبه الدكتور الوهبي قبله.
وبالرجوع إلى الوثيقة الأصلية التي أهداني إياها الدكتور القريني التي هي مصدر الدكتورين الفاضلين وجدتُ أنّ اسمَ الرجل الذي وُصفَ بـ(المُتمرِّد)، الذي قدّم له أمير سنجق القطيف سلطان علي بك المُؤن الغذائية؛ قد كُتب فيها بهذا الرَّسم: «حميد بن سعدون»؛ كما في الصورة المرفقة لها، وليس «سعدون بن حميد»؛ في حين ذكَرَت هذه الوثيقة اسم (سعدون) مجرَّداً في الموضعين السابقين لشخصٍ آخر في الأحساء، وكما هو واضح من نصّ هذه الوثيقة، فإنّها تذكر شخصين اثنين لا شخصاً واحداً، وهما (سعدون الخالدي) الذي تمرّد على الدولة في الأحساء، والذي توجد أكثر من وثيقة في الأرشيف العثماني ذكرت ثورته بالتفصيل واحتلاله للمبرَّز منها، وابنه (حميد بن سعدون) الذي تمرَّد على الدولة في القطيف، والذي كان أمير سنجق القطيف سلطان علي بك يقدم له المؤن الغذائية لإرضائه؛ في حين كان أمرُ سعدون منوطاً بأمير الأحساء، وأمير واحة العُيون منها التي كان سعدون ينزل بقربها، وكان قد استمال أميرها السابق عثمان بك، وأمين الأمناء حسين، فتقاسموا مال الدولة الذي كان في خزينة قلعة العُيون بينهم.
وهكذا، وبقراءتنا لنصّ هذه الوثيقة كما دُوّن فيها - بدون تصرّف - فقد عرفنا أنه كان للثائر الخالدي سعدون ابنٌ اسمه حُمَيْد، وأنه كان مشاركاً له في حروبه، وأنه عندما قصد الأحساء لأخذ الميرة منها أرسل ابنه إلى القطيف لأخذ الميرة منها أيضاً، والأحساء والقطيف هما قصبتا البلاد حينها كما هو معروف.
وعليه، فإنّ معرفتنا لهذا الأمر يطرح علينا سؤالاً عريضاً، وهو: هل حميد بن سعدون الخالدي المذكور في هذه الوثيقة مع والده سعدون هو الجد الأعلى لآل حُميد؟
والجواب أستطيع أنْ أبوح به مستيقناً، وهو: نعم؛ هذا ما يبدو لنا من هذه الوثيقة؛ بالإضافة إلى ما ورد في بعض كتب التاريخ النجدية، فلو أننا رجعنا إلى سلسلة نسب برّاك بن غرير الحُميْديّ الخالديّ (مؤسس دولة آل حميد في القطيف والأحساء عام 1082هـ) التي ذكرها المؤرخ النجدي الشيخ إبراهيم بن صالح آل عيسى في الصفحة: 49 من كتاب (مجموع في تاريخ نجد)؛ المطبوع ضمن كتب (الخزانة النجدية)، فسنجده يذكر هذه السلسلة في أحداث العام 1081هـ؛ هكذا:
«برّاك آل غرير بن عثمان بن مسعود بن ربيعة بن حميد الخالدي».
في حين ذكر نسب ابن عمه محمد في أحداث سنة 1083هـ؛ هكذا:
«محمد بن حسين بن عثمان بن مسعود بن ربيعة بن حميد».
باستخدام اللفظة (بن) بين الجدّين (ربيعة) و(حميد) في كلا الموضعين، وهو لا يتعارض مع المؤرخين النجديين الذين كتبوا لفظة (آل) بين هذين الجدّين بدلاً من لفظة (بن) التي كتبها ابن عيسى. وعليه، فإنّ ربيعة يكون ابن حميد بن سعدون نقلاً وعقلاً، فالنقل هو هذا الذي ذكره المؤرخ إبراهيم بن عيسى في نسب برّاك بن غرير، والعقل يدلُّ على ذلك أيضاً، فهذه الجهود التي بذلها سعدون الخالدي وابنه حميد بن سعدون الواردان في الوثيقة المشار إليها، وما حصلا عليه من امتيازات مالية من الدولة العثمانية في الأحساء والقطيف، والزعامة الخالدية التي خَلُصَتْ لهما لن تذهب لغير أولادهما من صُلبهما، وأيضاً، فإنّ قعدد النسب، وهو وجود أربعة آباء بين برّاك المؤسس للدولة في العام 1082 للهجرة، وبين حميد بن سعدون الموجود حيّاً عام 968 للهجرة كما في الوثيقة؛ هو قعدد صحيح لأنّ الفارق الزمني بين الجد وحفيده الرابع هو 114 سنة، وهي مدة معقولة ومقبولة لحياة أربعة آباء متسلسلين.
وبناءً على ما تقدم، فإنه يمكن القول إنّ من ورد باسم (ابن حميد) في وثيقة أخرى من وثائق دفاتر المهمة كُتبت عام 983 للهجرة هو ربيعة بن حميد بن سعدون الخالدي، فالمدة الزمنية بين هذه الوثيقة الأخيرة وبين الوثيقة التي كُتب فيها اسم أبيه حميد وجده سعدون عام 968 للهجرة هي 15 عاماً، وهي مدة تكفي لانتقال الزعامة الخالدية من الجد إلى الابن، فالحفيد.
وهذه الوثيقة الأخرى هي من إهداء أستاذنا الدكتور القريني أيضاً، وهي موجودة في الصفحة 117 من دفتر المهمة رقم (27)؛ المتضمّنة للحكم رقم (276)، الصادر في 27 شعبان من العام 983 للهجرة، والذي ورد فيه ما هذه ترجمته:
«سبق أن وجه سنجق الأحساء لابن حميد من أعيان العربان؛ على أن يقيم فيها في الموسم، ويصونها من قُطّاع الطرق من القبائل العربية مقابل ساليانة بمائتي ألف آقجه، وقد حصل من جهة بغداد أخيراً على الذخيرة، ولم يقض الموسم في الأحساء؛ بل أرسل ابنه طالباً من أمير أمراء الأحساء الساليانة الخاصة به، ولذلك أمرتُ: إذا وصل إليك أمري هذا، وإذا قدم إليك رجال المذكور راغبين في الحصول على الذخيرة من جهة بغداد، فلتنبّه كافة الأمراء والقضاة إلى عدم منحهم الذخيرة من جهة بغداد إلا إذا قضى الموسم مع عشيرته في الأحساء». (ينظر الصورة المرفقة).
وكما نلاحظ، فإنّ الوثيقة تذكر أنّ ابن حميد هذا الذي رجّحتُ أنه: ربيعة بن حميد بن سعدون قد أرسل ابنه إلى الأحساء يطلب من أمير أمرائها المقرر المالي الخاص به وبقبيلته، وربما يكون ابنه هذا هو مسعود بن ربيعة بن حميد بن سعدون الجدُّ الثاني لبرّاك بن غرير بن عثمان بن مسعود الذي سيقوم بطرد الأتراك والآفراسياب من القطيف والأحساء في العام 1082 للهجرة، ويؤسس دولة آل حميد فيهما.
وختاماً.. لقد اتضح لنا الأمر الذي ذكرته في أول هذا البحث، وهو ضرورة الإبقاء على النصّ الوثائقي بالصّيغة التي كُتب عليها إن كان باللغة العربية، أو بالترجمة الحرفية الصحيحة له إن كان بغير اللغة العربية، وأنّ نقله للقرّاء يجب أن يكون سليماً من غير تعديل أو تبديل من قبل ناقله أو مترجمه، وأنه إذا كان للناقل أو المترجم رأيٌ حول ما يراه خطأ في النصّ فإنه ينبغي عليه ذكر رأيه هذا في الهوامش والحواشي لا أنْ يفرض رأيه على النصّ الأصلي، ويقوم بتغييره ليتفق مع رأيه لأنّ مثل هذه الأفعال من شأنها المساهمة بفقدان المعلومات الصحيحة كما حصل لهذه الوثيقة التي تمّ تصحيحها.