د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
ترجعُ علاقتُه بلبنان إلى شبابه المبكر حين كُلّفَ بمهمةٍ رسميةٍ في بيروت امتدت ثلاثة أسابيع ضمن وفدٍ من معهد الإدارة حيث كان يعمل، ومصلحة الجمارك - كما كانت تُسمّى - وقد حكى عن الرحلة قبلًا في بعض الوسائط، وعبر مقال منشور بهذه الصحيفة في 3-3-2016م بعنوان: (الظلام يتجاورُ مع النور ولا يتحاور) فلا يَعودُ ولا يُعيد بل يستعيد الصورةَ الذهنيّةَ - بعيدًا عن التجاذبات السياسية والمذهبية والطائفية - ويعجبُ من مقدرةِ ناسه على التواؤمِ مع العواصفِ «الداخلية» والقواصف «الخارجية» التي ما فتئتْ تثيرُ الغبار وتشعل النار.
** لم يحِدْ عن الحقيقة (إيليا أبو ماضي 1890- 1957م) حين كتب:
اثنان أعيا الدهرَ أن يبليْهما
لبنانُ والأملُ الذي لذويهِ
** كان مفتتحَ نصٍ جميلٍ لا يُمثل الواقعَ بتفاصيله وإن حكى شيئًا عمَّا رآهُ ونراه؛ إذ لم يبلَ، بل ابتُلي، وجاءت الحربُ الأهليةً الأخيرة التي استمرت خمسة عشر عامًا 1975- 1990م مثالًا مشهودًا لأسطورة طائر الفينيق الذي ينبعث من رماد احتراقه، لكن حقبة الازدهارٍ لم تطلْ، ومنذ أحداث عام 2005م والأَرزُ مرتهنٌ فوق ارتهانه، وجلب الفرسُ وأتباعُهم البوار لشعوبٍ وأوطانٍ وجيران.
** هو بلدُهم وهذا شأنُهم، والله جلَّ وعلا « لا يغيرُ ما بقومٍ حتى يُغيّروا ما بأنفسهم»، ولن يُضارَّ بمعضلاتهم أحدٌ سواهم؛ فلا رثاء ولا إشفاق هنا، بل محاولة تجاوز السطح الملمّع إلى الإنسان المهمش، أو إلى الأكثريةِ المغلوبة التي تبحث تحت الأرض عن قُوتها، ولا علاقة لها بما يبعدُ بها عن كدِّ يومها؛ فليس لبنانُ ما تبثه الوسائطُ من أفياءٍ وأزياءٍ ورقصٍ وغناء، والشمسُ لا تُشرق عليه كلِّه، والمطرُ لا يسقيه جلَّه، والشظف يتجاوزُ الترف، والعَوَزُ يُرهقُ البائسين.
** هنا صورة حربٍ أخرى لا علاقة لها بمن هم تحت الشمس وفي ظل المطر وفوق الأرض، بل هي حرب اجتماعيةٌ أنتجت كما رسمت نازك سابا بارد في روايتها: (الذكريات الملغاة- 1998م) وسطًا مفككًا وشخصياتٍ مهزوزة، ولغادة السمان في روايتها: (كوابيس بيروت- 1976م) توثيقٌ زامنَ بدايات الحرب الأهلية ونقل الحيف والخوف، والموتَ والجوع، والحُروب والحِراب.
** نقرأُ العناوين العريضة على الصفحات الأولى ومقدمات نشرات الأخبار فنفهمُ مراسمَ الكبار، ويغيبُ عن معظمها المهمشون الذين لا يرعَاهمْ إعلامٌ حرٌ وأَعلامٌ أحرار، ولا يكتبهم الروائيون والمقاليون المستقلون، ويعرف أهل لبنان قبل غيرهم صحفيين وناشرين ومؤلفين لبنانيين بارزين بدَوا في حضورهم متحيزين حزبيين، ومؤدلجين صاخبين، وتجارًا شاطرين، ولا يكاد المتابعٌ للوضع الثقافي عندهم يجد ما يعبرُ عن أحوال الهامش والمهمشين، والفتنةُ لا تُصيبُ الظالمين وحدهم.
** في زوايا بائسةٍ قرب بلداتٍ باذخةٍ رأى الانكسارَ والشموخَ، وسمعَ صوت المؤذن لا المغنّي، واستعاد «أبا ماضي»:
لا يُسفرُ الحسنُ النزيه ُلناظرٍ
مادام منه الطرفُ غيرَ نزيهِ
ولمن يقولون «الفرنجُ» حُماتُهُ
اللهُ قبل سيوفهم حاميهِ
** الأوطانُ لا تُباع.