د. محمد بن إبراهيم الملحم
احترت في عنوان مقالتي هذه فلم أجد لها أكثر ملاءمة من هذا العنوان، أحكي لكم هنا قصة لمعلم فاضل عمل في تدريس المرحلة الابتدائية، ولم أكن أعرفه قبلاً وهو لا يعرفني أيضاً، ولكني التقيت به في مناسبة عابرة تصادف أن كان جالساً فيها جواري فتجاذبنا أطراف الحديث عن التعليم ليحكي لي موقفاً حدث معه أبهرني وأعجبني فرأيت أن أشرككم في جمال هذه القصة اللطيفة والتي دارت أحداثها في مدرسته التي كان يعمل بها حينما تفاجأ المعلمون وإدارة المدرسة أن أحد الطلاب ظل مغلقاً على نفسه باب الحمام إلى ما بعد انتهاء الفسحة ولمدة طويلة وحاولوا أن يقنعوه بالخروج لكنه رفض، وكان هذا الموقف عصيباً ومحيراً لهم جميعاً حتى علم هذا المعلم المربي فجاء وطلب منهم جميعاً الخروج من المكان وتركه تماماً وبعد فترة من الهدوء دخل وحده وتحدث إلى الطالب قائلاً له: لقد خرج الجميع بعد أن يئسوا منك وذهبوا لحصصهم ولا يوجد إلا أنا، هل عرفتني يا ابني؟ قال نعم أنت الأستاذ الذي تقدِّم لنا الحلوى في الحصة (وكان طالباً في الصف الأول الابتدائي)، فرد عليه هذا المعلم: جميل إذن، أريدك أن تعلم أني أشعر أنك مثل ابني.. ولكن لا أدري هل أنت أيضاً تشعر أني مثل أبيك أم لا؟ فرد الطالب: بلى أنا أشعر أنك مثل أبي، فقال له إذن افتح لي الباب لأني أعلم أنك تحتاج مساعدة من أحد وقد طلبت من الجميع أن يخرجوا تماماً ولا يوجد هنا إلا أنا فقط... ولعلكم توقعتم ما الذي كان يدور برأس هذا المعلم المربي، فقد توقَّع أن الطالب في ورطة بسبب عدم تمكنه من استخدام الحمام وحده كونه حديث عهد بالمدرسة ولم يتعود على الاستقلال في إدارة شؤونه، وهو ما يحدث لبعض الطلاب الذين لم يذهبوا للروضة مسبقاً ولم يدربهم والداهم على هذه المهارات المهمة.
وفعلاً اطمأن الصغير لكلام هذا المربي وفتح له الباب ليجد المعلم أن توقعاته كانت صحيحة تماماً، وهنا صدق المعلم الأب وعده للطالب إذا أحضر صابوناً وأغلق عليه الباب مع الطالب وشمر عن ساعديه وقام بغسل جسد الطالب بالكامل (استحمام)، كما أنه غسل ثوبه غسلاً كاملاً، وحيث إنه اضطر أن يُلبسه ثوبه رطباً فقد طلب من زملائه أن يتأكدوا من خلو ممرات المدرسة بالكامل حتى يخرج مع الطالب منفردين لا يراهما أي أحد سواء من الطلاب أو أعضاء المدرسة، وفعلاً حصل له ما طلب وأخذ الطالب إلى سيارته وأوصله إلى بيته، حيث طرق الباب وسلَّمه إلى والدته بنفسه.
الموقف مبهر بكل المقاييس ليس فقط لأنه قام بهذا الجهد وتواضع وفعل ما تفعله الشغالة أو الأم في المنزل، وهو ما سيأنف من عمله كثير من المعلمين كما تتوقعون، ولكنه فعل ما فعل لأن الموقف بالنسبة لطالب مستجد ستكون له آثار نفسية سلبية جداً على الطالب لو افتضح أمره، بل ربما يرفض أن يعود للمدرسة، أو لو أنه أجبر على الذهاب إليها فلن تكون نفسه مفتوحة للتعلّم والتفاعل الاجتماعي السوي مع بقية الطلاب، لقد كانت كل هذه الأفكار تدور بذهن المعلم الأب وهو يفعل ما فعل لهذا الطالب لأنه يعرف أنه لن يخرجه من هذا المأزق أحد سوى أمه والتي لا يمكن أن تصل إليه في هذه الحالة أو ربما كان الحل البديل هو كسر الباب لأخذه إلى أهله تجنباً لوقوع المدرسة في طائلة المسؤولية لطول بقائه في الحمام أكثر من المعقول، وربما تتصوروا سيناريوهات متنوّعة أخرى في نفس القالب أغلبها لن يأتي بخير للطالب وإنما كلها تهدف إلى القيام بالواجب الرسمي لموظفي المدرسة، وكما ذكرت في مقالتي السابقة حول الفرق بين المهنة والوظيفة يظهر هنا الفرق الجوهري بين الممارستين وقيمة كل منهما لبناء المجتمع، شكراً للأستاذ الأب الفاضل صالح بن إبراهيم المنصور، الذي تقاعد عن العمل ولكن لم تقعد همته عن العطاء ولو بهذه القصة الملهمة والتي بطلها الآخر (الطالب) هو طبيب قلب مهم يعمل حالياً في أحد مستشفياتنا فما أجمل عطاء المهنة وقيمتها العليا.