د.محمد بن عبدالرحمن البشر
الإنسان بفطرته خليط من الطباع والسلوك، متأثرًا بما ورثه من آبائه وأجداده، وكذلك بما حوله من معطيات بيئية، سواء علمية أو ثقافية، أو مؤثرات خارجية ليس له فيها يد، وقد يأخذ ويحتفظ بما أخذ، لأنه يرى أن الظروف لا تسمح له بأن يبدي ما يخفي، سواء كان الذي يخفيه حسناً أو مشيناً، وفي اللحظة نفسها قد يعتريه عبر مسيرته في الحياة الكثير من المتغيرات في ما يخفي أو في ما يبدي، وهذا شيء طبيعي لعوامل نفسية وأخرى خارجية، وأيضًا عامل السن والتيارات العلمية والثقافية والسياسية والاجتماعية التي قد يتعرض لها خلال عمره المديد، والعمر أيضًا عامل أساسي في الحكم على الأمور، وفي الغالب فإنه يكون أكثر تعقلاً وتمييزاً بين الصحيح والسقيم مع تقدم العمر.
الصحابة رضوان الله عليهم بعد أن ذاقوا لذة الإسلام، وحلاوة الإيمان، هجروا الكثير من السلوكيات التي كانت سائدة في الجاهلية، وأبقوا على ما يتوافق مع الدين الحنيف، ممتثلين لأمر الله تعالى، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وكيف لا، وهم يعيشون ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم، يعلِّمهم، ويثقفهم، ويرشدهم إلى ما هو خير لهم في الدنيا والآخرة، لكن الطبيعة الموروثة بقيت في الغالب كما كانت، فأبو بكر بقيت فيه سماحته، وعمر رضي الله عنه بقيت فيه شدته على الحق، وعثمان بقيت فيه وداعته، كما أن عليّ بقيت فيه شجاعته وقوة حجته، رضي الله عنهم جميعاً، كما أن لكل منهم جزء من تلك الخصال، لكن هذا ما اشتهر به كل واحد من الخلفاء الراشدين دون غيره، ومثله أيضًا الكثير من الصحابة الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعلموا على يديه الكثير من الخصال المحمودة، لأن الإسلام جاء ليتمم مكارم الأخلاق، وهكذا فإن ما كان محموداً من إخلاق في الجاهلية بقي كما هو، وأضيف إليه ما جاء به الإسلام. وهؤلاء الخلفاء الراشدون الأجلاء بعد أن تولوا شؤون المسلمين، وغير المسلمين من الذميين، تجلت بعض الصفات التي كانت خفية، واختفت بعض الصفات التي كانت ظاهرة، لأن المسؤولية تتطلب ما يتناسب معها من سلوك وتصرفات، وهكذا فالإنسان يتغير مع الزمن والمسؤولية والظروف والتيارات المحدثة، لهذا فهو حقاً مجموعة إنسان.
أبو حيان التوحيدي في كتاب الإمتاع والمؤانسة، كان يخفي الكثير مما يحمله في قلبه على ابن العميد، والصاحب بن عباد، وكتب ما يراه فيهما من المثالب في مسودة كتاب، وأخفاها، وأسماه أخلاق الوزيرين، أو مثالب الوزيرين، وبقي مخفياً عنده خشية بطش الصاحب بن عباد، حتى باح به ذات يوم للوزير ابن سعدان، في جلسة من جلسات المؤانسة، فأصر عليه أن ينسخ له نسخة منه، ويعطيها إياه، مؤكداً له أنه سوف لن يبوح بهذه النسخة، ولن يرها أحد قط، ولن يسمع عنها، فقبل ابن حيان وأعطى ابن سعدان تلك النسخة، وابن حيان كان يحمل غيظاً على الصاحب بن عباد لأنه لم يعطه، ويعلم الكثير عنه ولا يبديه، اتقاء لشره إن وقع بين أياديه.
الإنسان بطبعه خليط من الحب، والخير، والعطاء، والتسامح، والسماحة، والبشاشة، وغيرها، وهو أيضًا يحمل صفات مناقضة لتلك، فقد يكون فيه شيء من الكره، والحسد، والحقد، والبخل، والكبر، والزهو، والتجهم، وغير ذلك من الصفات غير المحمودة، ولهذا فهو مجموعة إنسان، لكن كل هذه الصفات قد تزيد وقد تنقص في شخص بذاته، ومن شخص إلى آخر، لكن هذه الخصال قد تتعدى أحياناً ذلك الرجل إلى غيره، فمثلاً الحقد الذي - والعياذ بالله - لا يقف عند صاحبه فقط، لكنه قد يتعدى إلى غيره، وقد يشمل عدداً محدوداً، أو كثيراً جداً من البشر، وحتى ربما يطال حقده، البيئة، والمنشآت، والهواء، والتربة، وغيرها من الموارد التي منحها الله للإنسان لاستغلالها والاستمتاع بها، لكن الإنسان بطبيعته قد يعود مرة أخرى إلى صوابه في فترة معينة من حياته، وقد يسلك في ذلك مسالك كثيرة، منها ما هو يسير، ومنها ما هو صعب.
والناس أيضًا تختلف في طباعها في بعض المواقف، فأذكر أنني قرأت أن أحد خلفاء بني العباس لا يعطي إن سُئل، لكن إذا أعطى أجزل العطاء، كما أن الخليفة الأموي الأندلسي المشهور عبد الرحمن الناصر قد جلس ذات مساء مع جواريه في ليلة أنس، وحاول أن يقترب من أحداهن، فشاحت بوجهها نافرة منه، فغضب، وأحرقها بالشمع حتى ماتت، لكن ذلك السلوك لم يكن له منهجاً في حياته، غير أنها لحظة غضب راحت ضحيتها تلك المسكينة، والأمثلة كثيرة في هذا المجال.
هكذا هو الإنسان في حياته وتصرفاته وعلاقاته مع الآخرين، وفي نهاية الأمر سيترك هذه الحياة ليكتب التاريخ عنه، وتكتب الملائكة ما فعل، ليجدها أمامه في أخراه.