إنّ ممّا يُعزّز الواقع الثقافي في المجتمعات، ويفتح له آفاقًا أوسع للوصول والانتشار، ويعكس الدور المنوط بمضامين وحيثيات الخطاب الثقافي، هو الإعلام الثقافي بمختلف تقنياته ووسائله وابتكاراته التقليدية والحديثة. إذْ يُشكّل الإعلام الثقافي أحد الممكّنات لتعزيز الواقع الثقافي في عقول ووجدان الجماهير والمتلقين، ومن خلاله يُمكن قياس مدى فعالية وتأثير الخطاب الثقافي، وتعدّ الصحافة إحدى الوسائط الإعلامية التي لعبت دورًا فاعلًا في الشأن الثقافي.
ويشكّل الإعلام الثقافي تخصصًا من تخصصات الإعلام، ازداد الاهتمام به مع بروز مفهوم العولمة الثقافية، التي تُشكّل نمطًا من أنماط العولمة، وهو ما أدّى إلى بروز دور الاتصال والإعلام في المجتمع الدولي كظاهرة اجتماعية وثقافية موازيًا التطور السياسي والاجتماعي والاقتصادي والعلمي والتكنولوجي.
حضر الخطاب الثقافي السعودي طوال العقود الماضية في جلباب وسائل الإعلام التقليدية المتمثلة في الصحافة بالدرجة الأولى، ثم الإذاعة، والتلفزيون بشكل أقلّ، فكانت الصحافة الورقية المنبر الأول للإعلام الثقافي عبر تخصيصها عددًا من الصفحات والملاحق الثقافية، لتعكس الحراك الثقافي، مقدّمة رؤية إعلامية بأبعاد ثقافية عبر محطات تاريخية مرّ بها الخطاب الثقافي السعودي، وهو ما جعل من الصحافة الثقافية جاذبة لكثير من الجماهير والمهتمين والمتلقين.
وتُعد المجلة الثقافية بجريدة الجزيرة إحدى أهم الوسائل الإعلامية، التي تُعنى بالجانب الثقافي والأدبي، وأحدثت تغييرًا في مسارات الإعلام الثقافي محليًا وإقليميًا، واستطاعت أن تُوجد لنفسها حضورًا بارزًا منذ سنوات، وحتى اليوم مع وصولها إلى العدد رقم 700، وهو رقم لم يكن ليتحقّق لولا وضوح الرؤية لتكون المجلة الثقافية مشروعًا فاعلًا في خارطة الإعلام الثقافي السعودي، ويدعو للفخر من قبل جميع المهتمين والمنتسبين للشأن الثقافي، نظير ما قدّمته طوال هذه السنوات أعدادًا وملفات وتغطيات وموضوعات، استطاعت من خلالها كسر صورة النمذجة النمطية التي كانت تُعاني منها الصحافة الثقافية والأدبية، وتمكنت من الإبداع في جوانب مختلفة عمّا كان سائدًا قبلها، وفتحت المجال نحو أُفق جديد من العمل الإعلامي الثقافي، فكان صوتها حاضرًا ومسموعًا منذ البدايات، ولذلك برهنت على صنع نموذجها الخاص في الشأن الإعلامي الثقافي.
إنّ المجلة الثقافية تُشكّل ذاكرة حية للإعلام الثقافي في مجال الصحافة الثقافية، لذلك فإن الآمال المنعقدة كبيرة لأن تقوم المجلة بتوليد أفكار إبداعية لحفظ ما قدّمته وما تُقدّمه من إرث زاخر عن تاريخنا الثقافي، فمن خلال هذه المجلة قُدّمت أسماء مهمّة عملت بمنتهى المهنية والموضوعية في مجال الصحافة الثقافية، وهي أسماء يُشار لها اليوم في الشأن الثقافي والأدبي؛ ولعل من أبرزها وعلى رأس القائمة الطويلة عراب هذه المجلة ومشرفها الدكتور إبراهيم التركي، وطاقمه التحريري، الذي تأتي أسماء وتمضي أخرى، وجميعها تُقدم جهودًا مقدّرة في مجال الصحافة الثقافية. كما أن المجلة ساهمت في اكتشاف عدد من الأسماء الشابة، والأصوات الأدبية في مجال كتابة المقالات الثقافية والنقدية وحتى الفلسفية، وتصدرت المشهد في الصحافة الثقافية.
بقي أن أقول إنّ التطور التقني اليوم له بالغ الأثر في التبادل الثقافي، وتمتعه بقدرات لم يكن أحد يحلم بأن تتحقق بهذه السرعة، فأحدثت الإنترنت اليوم تواصلية جديدة، وسريعة في الوقت نفسه، فما قد كان بحاجة إلى أيام ليصل عبر وسائل الإعلام التقليدي إلى المتلقين، أصبح اليوم متاحًا خلال دقائق لكلّ متابع ومتلقٍ ومهتم، وأسهم هذا المجال في تفعيل أكبر للإعلام الثقافي من خلال استخدام التقنيات الإعلامية الحديثة المناسبة، وتعزيز المحتوى الثقافي في وسائل الإعلام المختلفة، وهو المحتوى الذي يسعى لعكس الصورة المتصالحة عن الواقع الثقافي الذي تزخر به المملكة العربية السعودية.
** **
نايف إبراهيم كريري - كاتب وصحفي