بعد أن أنهى الشاب سعيد دراسته الجامعية، التحق بوظيفةٍ في القطاع الخاص. وبعد مرور سنة من العمل، بدأ والداه بمناقشته والإلحاح عليه بالزواج. وكان من طبع سعيد القناعة والقبول، فترك اختيار الزوجة لأمه وأخواته، مع تحديد بعض الشروط البسيطة في شريكة الحياة. تم الأمر بشكل متسارع، فكأنه في حلم مرَ سريعاً، لم يوقظه منه إلا بكاء أول طفلٍ تهديه إليه زوجته ليملأ حياتهم بالفرح والسعادة. هذا الفرح الذي كاد أن يفسده ضيق ذات اليد، وقلة الراتب وزيادة الاحتياجات. توفي مالك الشركة التي يعمل بها سعيد، فانتقلت ملكيتها إلى الزوجة، فزادت المسؤولية الملقاة على عاتق سعيد. فإلى جانب أسرته، وعمله، كانت هناك مهامٌ أخرى توكلها عليه صاحبة الشركة. وفي أحد المرات وخلال قيام سعيد بواحدة من المهام الخاصة بصاحبة الشركة، عرضت عليه الزواج، فكان الحبل الذي امتد إلى غريق هارب من عَظّة الفقر وآلامه. وبعد استخاره واستشاره، وافق سعيد، داعياً ربه من الخير المزيد. استمر الحال بسعيد بين العمل وزوجتيه، يوزع وقته بالتساوي، ويحاول قدر إمكاناته أن يرضيهما، ويسعد أبنائه، ويُخلص في عَمله. مرت الأيام سريعة، وبدأت آثار منتصف العمر لدى سعيد، فتفكر وتذكر بأنه قضى أجمل سنين حياته في كَدٍ وعناء، وملاحقةٍ ومتابعةٍ خلف المهمات، لإنجازها قبل الفوات. فنصحه أحد أصحابه بتجديد روحه بزوجةٍ شابةٍ يلاعبها وتلاعبه، ولم يغفل ذلك الصاحب بتتويج المشورةِ بتوصية على أحد قريباته لأن تكون هي سعيدة الحظ للارتباط بسعيد، ولتملأ الخانة الثالثة في قلبه. تقبَّل سعيد الفكرة وسارع لتطبيقها. لم تتحول القصة بعد ذلك إلى دراما خليجية، فقد كان سعيد يُمسك بالخيوط من المنتصف، حيث استطاع بعد توفيق الله من إدارة دفةِ المركب ليسير بكل سلاسة إلى برِ الأمان، على الرغم من الرياح المتلاطمة والأمواج الهادرة. ليس هذا فحسب بل إنه استطاع أن يحصل على المزيد من الوقت عبر توزيع المهام، ليقضيه مع نفسه ومع الكتاب الذي صرفته عنه زحمة الحياة وطلب الرزق. علاقته الأخيرة بالكتاب والثقافة ربطته بمجموعةٍ من المثقفين والمفكرين، وكان لوسائل التواصل المختلفة، بالإضافة إلى المنتديات الأدبية نصيبٌ من وقت سعيد. هذا الأمر أوصله لأحد الأديبات، ممن تتصدر أبيات شعرها ورواياتها الصحف والمجلات، وقد كان قلبها فارغا فوجدت في سعيد ضالتها، وكان الرابط بينهما، والعشق المشترك، هو مطارحة الفكر والدب. فأتمت معه الخانة الرابعة والأخيرة. استمرت الحياة مع سعيد تحفها السعادة، مع زوجاتهِ، وشركتهِ، التي وظف فيها أبنائهُ.
وفي أحد جلسات السمر التي كان يقضيها سعيدٌ مع أصحابه، سأله أحدهم عن كيفية إدارة عائلته وشركته بدون مشاكل؟ فأجاب سعيد: لا يوجد حياةٌ بلا مشكلات. لكن إدارة كل مشكلة تحتاج إلى فنٍ وحكمة وشيءٍ من التوجيه، فبدلا من أن تقوم بحلها بنفسك يمكنك تفويض صاحب المشكلة، سواء كانَ زوجةً أو ابناً أو موظفاً، ليقوم بالبحث عن الحلول والخيارات المناسبة، ومشاركتهم في ذلك، ومتابعة مراحل التنفيذ. كذلك حدد أهدافاً واقعية، وخطط للوصول إليها، ثم حدد موقعك وموقفك الحالي وبُعدك عن هذه الأهداف، بالإضافة إلى ذلك تعرف على العوائق، سواءً كانت داخليهً أو خارجية. ثم أدرس المسارات والخيارات الممكنة للوصول إلى مرادك، مع التعرف على إمكانياتك ونقاط القوة لديك والموارد التي ستعينك على تحقيق مقصدك. أخيراً، توكل على الله، واعمل، وابذل جهدك لتحقيق تلك الأهداف. رد عليه أحد أصحابه: بأن هذا الأسلوب جميل لكن كيف يمكن ترتيب ذلك مع ساعات اليوم المحدودة؟ تنهد سعيد واتكأ على مخدةٍ بجواره وقال: أما الوقت وترتيبه، فقد وزعت أعمالي على أربع مربعات. ففي المربع الأول كنت أعمل مع زوجتي الأولى التي عشت معها البدايات وتعرضنا للصعوبات والعثرات، فحددت من الأعمال أشدها أهمية وأكثرها عَجَلة، وكانت ترى في ذلك إضافة لها، وزيادة في قيمتها وأهميتها. أما زوجتي الثانية فهي صاحبة بعد نظر ورؤيةٍ ثاقبة، فكنت أشركها في الأعمال ذات الأهمية العالية، لكنها ليست عاجلةً في تنفيذها، كالمشاريع المستقبلية، وإستراتيجية الشركة. أما زوجتي الثالثة فلها اهتمام كبير بالحفلات والأسواق والمناسبات، فكنت أشركها في الأمور المتعلقة بعلاقاتي الاجتماعية وما يصاحبها، أو بمعنى آخر، كل أمر عاجل لكنه قليل الأهمية، ولا يترتب على الفشل في إنجازه خسارة تذكر. وزوجتي الرابعة تركتها للمطارحات الفكرية والأدب والشعر. وكل أمر لا يتطلب إنجازه عجلة في الأمر، وليس في تفويته خسارة بالغة.
فسأله آخر: وما هو مشرعك القادم، فرد سعيد: الآن أقوم بتأليف كتاب (العادة التاسعة) وقبل أن يسأله أصحابه عن تلك العادة، سبقهم بقوله: إنها باختصار تركز على كيفية الانتقال من التمكُن وقمة الإنجاز، إلى التقاعد المريح.
** **
د. عبد العزيز سليمان العبودي - جامعة القصيم