يُصادفنا في التُّراث العربيّ بعضُ المصطلحات التي لم تلقَ ذيوعًا وشيوعًا؛ لنُدرة مجال تداولها، أو تحدُّدِ حقلها الدَّلالي، أو نحو ذلك؛ فتظهر غريبةً، أو تبدو غامضةً على خاصَّة طلبةِ العلم، بَلْهَ عامَّتهم. وكنتُ أحد هؤلاء العامَّة ممَّن استغلقَ عليه مبنى هذا المصطلح ومعناه، فشرعتُ أُفتِّش عنه ههنا وهناك حتى تجمَّع لديَّ من المادَّة العلميَّة ما أزعم أنَّه يقدِّم للقارئ تصوُّرًا شافيًا عن هذا المصطلح تعريفًا وتأصيلًا. فجعلتها في قراءتينِ إحداهما تعريفيَّةٌ، والأخرى تأصيليَّة -تلحقها تِباعًا في العدد القادم من هذه المجلَّة المعطاء بإذن الله تعالى- وقدَّمتُ التَّعريفيَّة؛ لأنَّ التَّعريف تصوُّرٌ، والتَّأصيل حكمٌ، والحكمُ على الشَّيء فرعٌ عن تصوُّره. أسأل الله أن ينفع بها، وهو وليُّ التَّوفيق.
المسألة الأولى: الحدُّ والبيان
أقدم تعريف وجدتُّه لهذا المصطلح هو تعريف شمس الدِّين سامي فراشري الألبانيّ العثمانيّ (ت1322هـ/ 1904م)، لمفرد هذا المصطلح، فقد ذكرَ من معاني (منه) ما ترجمتُه: «هي العلامة الدَّالة على نهاية التَّعليقة المدوَّنة على هوامش كتابٍ ما»(1). وهو -كما يظهر للنَّاظر- تعريفٌ ناقصٌ؛ لافتقاره إلى تقييده بكون التَّعليقة من المؤلِّف نفسِه، ذلك التَّقييد الذي استوفاه بيانُ العلَّامة محمود شكري الآلوسيّ (ت1342هـ/ 1924م) بقوله: «وأمَّا ما ترونَه في أواخر حواشي شرح قطر النَّدى وهو كلمة (منه) في أواخر التَّعليقات، فهو للدَّلالة على أنَّ ذلك من المؤلِّف لا من غيره. فإذا علَّق على الكتاب واحدٌ آخر غير المؤلِّف، كتبَ اسمَه، ولم يَجُزْ له أن يكتُب (منه)، بل ذلك خاصٌّ بمؤلِّف الكتاب»(2). أمَّا الشَّيخ محمد رضا المامقاني فنصَّ على أنَّ (منه) «من مُلحَقات المصنِّف، أو من حواشيه على مَطالبه، تُوضَعُ غالبًا في آخر الحواشي»(3). وذكر الدُّكتور محمود مصري -وهو يسرد علامات التَّرقيم والاختصارات- عن (منه) قائلًا: «أي من كلام المصنِّف ممَّا ليسَ في المتن»(4).
وفي ضوء ما تقدَّم وبناءً على ما تيسَّر من أشكال ورود هذا المصطلح واستعماله في التُّراث العربيّ، يمكننا أن نقترح في حدِّه بأنَّه: (تعليقاتُ المؤلِّفِ الفَضلةُ على مؤلَّفه مُطلقًا).
فقولنا: (تعليقات) جنسٌ لكلِّ ما أُنشِبَ في جانب النَّصِّ وأُنيطَ به من نَقدٍ أو بيانٍ أو تكميلٍ أو تصحيحٍ أو استنباطٍ(5). وقولنا: (المؤلِّف) فصلٌ يُخرج تعليقاتِ غير المؤلِّف. و(الفَضلةُ) أي: ما يمكن الاستغناء عنه(6)، قيدٌ يُحتَرَزُ به عمَّا لا يمكن الاستغناء عنه، نحو: اللَّحَق الذي يُعلِّقه النَّاسخُ، والتَّصحيح الذي يُعلِّقه غيرُ النَّاسخ(7). فإذا كانت تعليقةُ المؤلِّف لحَقًا أو تصحيحًا فلا تندرج تحت مفهوم «الـمِنْهُوَات» اصطلاحًا، وإن كانت منه حقيقةً؛ لسببين:
1. اختلاف الرُّموز والعلامات المذيَّل بها اللَّحَق والتَّصحيح عن تلك المختوم بها الـمِنْهُوَات.
2. اختلاف التَّعامل في التَّحقيق مع اللَّحَق والتَّصحيحُ، عنه مع الـمِنهُوَات، فاللَّحَقُ والتَّصحيحُ ممَّا يُدرَجُ ضمن المتن عند التَّحقيق، أمَّا الـمِنْهُواتُ فتُذكَرُ في الحاشية كما ارتضاها المؤلِّف، ولا تُلحَقُ بالنَّصِّ فتُقحَمَ في المتن.
وقولنا: (على مؤلَّفه) احترازٌ عن تعليقاته على مؤلَّفات الآخَرين، فلا تُعدُّ هذه من الـمِنْهُوات. وقولنا: (مُطلَقًا) أي سواءٌ أكان المؤلَّفُ منفصلًا عن هذه التَّعليقات، أو متَّصلًا بها في المتن. وتجدر الإشارةُ إلى أنَّنا لم نُقيِّد هذه التَّعليقات بعبارة (المذيَّلة بــ»منه»)؛ لئلا تخرج الـمِنهُوَات المتَّصلة؛ لاقتصار التَّذييل بـ(منه) على الـمِنْهُوَات المنفصلة منها.
المسألة الثَّانية: أنماط الورود
ظهر لنا -في مَبلغ علمنا وحدود اطِّلاعنا- أنَّ الأصلَ في ورود الـمِنْهُواتِ في التُّراث العربيِّ وتدوينها، هو أن يكون المؤلَّف في المتن وتكون هذه التَّعليقات في الحاشية مذيَّلةً بكلمة «منه»، وهذا هو النَّمطُ الأكثر فيها، كما في الصُّورة (رقم1). فإذا كثرتْ هذه التَّعليقات وازدادتْ، استوتْ تصنيفًا مستقلًّا برأسه، وخرجت مُفردَةً بكتاب على حِدةٍ، مجرَّدةً من كلمة «منه» المذَّيل بها، سواءٌ أسُمِّيت هذه التَّعليقات بالمنهوات في عنوان الكتاب، كما في الصُّورة (رقم2)، والصُّورة (رقم3)، أم لم تُسمَّ بها، كما في الصُّورة (رقم4).
وفي ضوء ما تقدَّم يمكن تصنيفها إلى نمطَينِ، هما:
1. الـمِنْهُوَات المنفصلة: هي ما كانَ المؤلَّفُ في المتن والتَّعليقاتُ في الحاشية.
2. الـمِنْهُوَات المتَّصلة: هي ما كانَ المؤلَّفُ والتَّعليقاتُ في المتن معًا.
المسألة الثَّالثة: علاماتٌ ورموز
سلك النُّسَّاخُ عدَّةَ مناهجَ في التَّرميز للـمِنهُوَات في التُّراث العربيّ، فممَّا وقفنا عليه أنَّهم يختمون التَّعليقةَ -غالبًا- بكلمة (منه)، أو يُضيفون إليها في وسطها شكلًا يشبه الرَّقم سبعة أو الرَّقم ثمانية، وأحيانًا يُكرِّرون الشَّكلَ هذا بجعل أحدهما جانبَ الآخَر مع إفراد (منه)، أو تكرار الشَّكل وكلمة (منه) معًا، بكتابة إحداهما فوق الأخرى، ورسم الشَّكل مزدوجًا واصلًا بينهما، كما في الصُّورة (رقم5)(8).
المسألة الرَّابعة: منهج المعالجة
لعلَّ المنهج الصَّحيح الذي ينبغي للمحقِّق أن يعتمدَه في معالجة هذه الـمِنْهُواتِ هو أن يذكرها في هامش تحقيقه مكسوعةً بكلمة (منه)، مثلما فعل فؤاد ناصر في تحقيقه حاشيةَ شرح القطر في علم النَّحو للعلَّامة الآلوسيّ(9)، كما في الصُّورة (رقم6)، أو مميَّزةً بعلامةٍ أو كتابةٍ تمييزًا لها عن غيرها من الحواشي، ودلالةً على أنَّ التَّعليقة من المؤلِّف لا من غيره. وأن يُنوِّهَ في مقدِّمة التَّحقيق بوجود تعليقاتٍ من المؤلِّف في هامشِ نسخةٍ أو نُسخٍ معيَّنة، ويُبيِّنَ منهج تعامله معها، كما فعل الدُّكتور مسعود كوكسري وصاحباه في مقدِّمة تحقيقهم، فقالوا: «كتبنا كلَّ الهوامش التي تقع في النُّسخ. وَضَعنا قيد (منه) في آخر تلك الهوامش التي تصاحب قيد (المنهوات) التي تُشير إلى أن تلك الملاحظة من المؤلِّف»(10)، كما في الصُّورة (رقم7).
... ... ... ... ...
الهوامش:
(1) قاموس تركي: 1422، ونصُّ كلامه بالعُثمانيَّة: «بر كتابك هامشنه قيد اولونان معلومات متممه نك نهايتنه قونيلوركه نوط اشارتى ديمكدر».
(2) أدب الرَّسائل بين الآلوسي والكرملي: 127.
(3) معجم الرُّموز والإشارات: 180.
(4) ما لا يسع المحقِّق جهلُه: 138.
(5) انظر: المعجم الوسيط: 622.
(6) أحصيتُ أغراض مِنْهُوَات حاشية شرح القطر في علم النَّحو للعلَّامة الآلوسيّ بمراجعة وتدقيق فؤاد ناصر، دار نور الصَّباح، تركيا، مديات، ط2، 2011م. فكانت كما يأتي: التعليل والتوجيه، والتفسير والبيان، والتذييل والتتميم، والتجويز والتخيير، والتخريج والتوثيق، والتفضيل والترجيح، والتأصيل، والتقديم، والتعريف والتسمية، والتلطيف والاستطراف، والتعقيب والاعتراض، والاستشهاد والتمثيل، والإعراب، وتكميل الشواهد.
(7) انظر: قواعد تحقيق النُّصوص لإبراهيم اليحيى: 58.
(8) استفدتُّ هذه الصُّورة من كتاب: ما لا يسع المحقِّقَ جهلُه: 138.
(9) دار نور الصَّباح، تركيا، مديات، ط2، 2011م.
(10) المختصر في النَّحو لإبراهيم الموستاري المعروف بـ «أوبياج» (ت1137هـ): 23.
** **
- صفاء البياتي