«من رسالة خاصة»
ليست عندي أرقام هواتفك هنا ولا في الأحساء، فاعذرني وأنا لا أعذر نفسي؛ لأني أعلم أن الحسرة عند رحيل الأخت مثل حسرة آدم حين خرج من الجنة. وأعلم أكثر من هذا لأنني فريد الوالدين وليس لي إلَّا أخت واحدة إذا هي غابت عني أكثر من أسبوع صارت كل الدنيا حفنة من ظلام أطلس، والوجد على فقدانها يدخل مع المرء إلى مثواه الأخير، فتجلَّد يا أخي محمد إن لم يكن إلَّا للشامتين، وأجر اللَّه في ذلك عَطِر من اللَّه في الدنيا والآخرة إن شاء اللَّه.
أيُّها الصديق النادر، لم أعلم بمقالتك عن الحمير إلَّا في يوم سؤالي الناس عن أرقام هواتفك وأنت الوحيد الذي شاركني بعض مشاعري حيث تخرّم الموت أصدقائي المتعلمين، ولم يبقَ إلَّا من يجهل القراءة أو لم يطّلع على ما كتبت، والبقية لا يودّون أن يدري أحد من الناس أنهم قد ركبوا الحمير، وهؤلاء حمير، وقبّحهم اللَّه من حمير بشرية، فهل لدينا ما نركبه حتى بعد البترول بعشرين سنة إلَّا الحمير.
ومعرفة أهل الرياض بالحمير الحساوية قديمة جدًّا؛ لأن كبار الأسر في الرياض أصحاب نخيل ومزارع، وهم أوزاع هنا وفي الأحساء، والذين لا يملكون البحارين السانية، وهي قوية في زعب الولاء الكبيرة لا بديل لها إلَّا الحمير الحساوية. وأصل الحمار الحساوي برذون فارسي. ومرّ ذكر الراذين في الأدب العربي ممَّا لا يخفى عليك وأنت سيد العارفين.
وكانت إشارتك إلى ركوبك على الحمارة ولين عريكتها وهي تمشي رهوًا إشارة مهمة وصحيحة، وهو ليس سرًّا إن قلت لك بأن في الرياض بطولها وعرضها في ذلك الزمان لا يوجد إلَّا عدد قليل منها، وأثمانها باهظة، بل شاقَّة؛ لأنها المركوب الخاص للجلَّة والأفاضل من العلماء والقضاة والأعيان ومن في طبقتهم، وأشره أتان كانت لدى الشيخ صالح الذي كان يسكن في الرياض ويقضي للناس في الضواتحي وجهته في (الباص) حي البديعة الآن. وما عدا هؤلاء الأكابر فليس عندهم إلَّا الحمير يتخيرون منها الكبير الهالك لسهولته وهو مركب العقلاء أو الضعفاء، وما هو دون الكبير يعالجونه بالتسعيط المستمر ببخور الكافور، أما نحن الفتيان فنبقى في شجار مستمر مع حميرنا، وهي -واللَّه- حمير سوء. وأنا في كل صباي مبتلى بحمار سوء (إن أشبعته رمح الناس، وإن جاع نهق) فلا تلمني يا أخي أبا فراس إن رأيت مزاجي قُلَّب فالممتن من أهل هذا الزمان هم أيضًا قُلَّب حتى وإن صفا المزاج وصفا الزمان وهدأت الريح.
إن سروري بكتابتك عظيم في نفسي؛ لأنك شاركتني مشاعري، ولأنك تساميت وكبرت عن شعور هؤلاء (المنبعجين) من ورم الخوف من ذكر الماضي بحلوه ومرّه، ولو سألت أحدهم عن صباه وكيف يتنقَّل لأنكر ذكر الحمير، وظن أننا سنقول: إنه يركب الأبجر لعنترة، وإن لا يدري بأننا سنفطن إلى أنه هثولي لا يملك حتى أجرة حمار.
وإنه من باب المصادفة، أنني لتوي فرغت من قراءة كتاب الشيخ عبدالعزيز التويجري (الملك عبدالعزيز.. دراسة وثائقية)، وفيه رسالة من مكة من الملك عبد العزيز رحمه الله إلى والده الإمام عبدالرحمن رحمه الله، يردّ فيها على طلب من الإمام الوالد يرغب فيه تزويدهم هنا في الرياض بعدد من البغال، فيردّ الملك عبدالعزيز بأنهم تأخّروا في الردّ لأنهم يتحيّنون وجود العدد الكافي من البغال القوية.
هاهم السادة الأشراف الملوك الأكابر يتصيدون الفرصة لاقتناء البغال القوية، وهي لا توجد إلَّا عندهم، فهل نكذب ونقول: لا، بل كنا في ذلك الوقت الخيل المسوّمة ويخدمنا بنو عبدالمدان. حاشا للَّه.
ختامًا أقول: شكرًا وألف شكر، وللَّه درُّك من صديق نادر، أسعدتني في وقت أنا أحوج ما أكون فيه إلى تلك، فشكراً يا أبا فراس. وتجلَّد لريب الهمّ ولا تتضعضع، وعلى الصادقة الصدِّيقة رضوان اللَّه، والسلام.
** **
عبداللَّه نور - رحمه الله-