نشأت اللغة بداية بتقليد أصوات الحيوانات للدلالة على الخطر أو توفر الفريسة أو ملاحقتها أو أي معنى من المعاني الحياتية التي تتطلب تواصلاً مع الآخر. أي كانت اللغة تلبي حاجة «المجتمع» الناشئ للتو، حيث لا يمكن تصور مجموعات من البشر أو حتى الحيوانات تعيش سوية دون تواصل ذو دلالة.
بيد أن اللغة لم تبق «ثابتة» ورافقت «حتمية» تطور حاجات المجتمع الذي انبثقت منه. ولم تعد مقتصرة على الإيعاز بالخطر أو توفر الغذاء، إنما تحولت إلى جزء أساسي من السياق الاجتماعي ذاته. فهي التي تميز المجتمع عن المجتمعات الأخرى، وهي تاريخ المجتمع وانجازاته وإخفاقاته وحاضره ومستقبله. لذلك احتاجت إلى توثيق (كتابة)؛ وإعادة إنتاج للمفاهيم (فكر)؛ وألحان (غناء)؛ وتعبير بالجسد (من الإيماء والحزن والسرور بملامح الوجه إلى الرقص) ... إلخ.
بهذا الشكل كانت ولازالت اللغة «تتأثر بالتطور الاجتماعي وتؤثر فيه»، أي أنها أصبحت الوعي الفردي والجماعي الذي يحدد هوية الفرد والمجتمع في آن. وانبثقت لغات متعددة حسب السياقات الجغرافية والتاريخية لكل مجتمع. كما تفرعت اللغة في كل مجتمع على حده والمجتمع البشري بمجمله؛ حيث لكل علم من العلوم لغته الخاصة به؛ ولكل «فن» لغته الخاصة به أيضاً؛ فتوجد لغة للأدب والموسيقى والأغنية والرسم والنحت والأسطورة والخرافة والملحمة والرواية ... إلخ.
من بانوراما اللغة هذه نجد أن «الاحتباس اللغوي» يؤدي إلى «احتباس» التطور الاجتماعي ذاته! ولا يوجد مجتمع متطور واحد «يحبس» اللغة بهالة من القدسية، ويعزو ذلك لكتب الأديان المقدسة! بل تتسابق المجاميع اللغوية في الدول المتقدمة على إدخال «لغات» التكنلوجيا الحديثة وغيرها للقواميس باستمرار. وتعددت القواميس ذاتها، فأصبح هناك قواميس فلسفية واقتصادية وسياسية ... إلخ.
هنا يأتي دور الفن في اللغة! حيث توظف المجاميع اللغوية في الغرب نشاطها للتوفيق بين اللغة المحكية بزخمها التطوري، والرونق الخاص للغة المتوارثة دون إغفال دورها التطوري السابق.
وعلى الرغم من ارتباط اللغة الوثيق بالتطور الإنتاجي التنموي للمجتمعات الغربية؛ وتخلف الدول النامية في هذا المجال؛ حيث يقول الفرد منا مثلا؛ اشتريت «بنطلونا» وليس سروالاً؛ أو أكلت «همبرغر» وليس شطيرة لحم؛ وما إلى ذلك؛ إلا أن إعادة إنتاج اللغة حسب السياق الاجتماعي واللغوي ليس مستحيلاً.
صحيح أن مثل هذا الأمر يتطلب التخلي عن الاحتباس اللغوي أولاً؛ والتحول من الاستهلاك إلى الإنتاج؛ وخوض عملية تنمية اجتماعية وفكرية خاصة بنا ومستدامة أيضا؛ ونحن نمتلك كل المقومات لذلك؛ هو أمر ليس بالهين؛ ولكنه يتطلب فقط الخروج من الجمود الفكري واللغوي؛ وإفساح المجال للشباب بالإبداع الفني في كل المجالات؛ بما في ذلك اللغة؛ وعدم التذرع أو التستر بحجج تراثوية واهية!
قال أحد الشعراء الشعبيين: (عندما يصل الشاعر «بالفصحى» إلى ذروة الإبداع، سيكون شاعراً مبتدئاً باللغة المحكية. ذلك لان الفصحى متقوقعة ولها حدود؛ بينما اللغة المحكية ليست محتبسة بشيء). وسواء كنت توافقه أم لا عزيزي القارئ فالأمر يستحق البحث!
** **
- عادل العلي