لماذا حينما أجدني أقرأ في علم المنطق أراني غريبا عليه وأجد نفسي غير متمكن في ماهيته وعلومه وكأن العلاقة بيني وبين المنطق ينتابها شيء من التململ؟ ثم إن هذا التساؤل يسوقني إلى ضعف تمكني من بعض العلوم الأخرى كالرياضيات والفيزياء وعلوم الشريعة وعلوم اللغة بل حتى بعض نظريات العلم الحديثة؛ إن تقبلتها فبصعوبة مع شيء من القلق.
وبعد محاولاتي المتواضعة للتعمق في علم المنطق وفي كتبه وأعلامه وجدت أنه الأساس الذي تقوم عليه علوم الحياة ومعارفها، وسماه الفاربي (أبو العلوم).
كونه يندس في كل علم فهو يقوم على الأسس والمقدمات والاستدلال والبراهين والحجج التي بالنهاية تبلور النتيجة الصحيحة في أي علم، والغريب أن علماء الفقه الإسلامي بالغوا في التحذير من تعلم المنطق مع أنهم استخدموه في علم أصول الفقه وفي سند الحديث وقضايا شرعية كثيرة إلا أن موقفهم منه متباين، بل إن منهم من استخدمه في إقامة الحجة على الملحدين.
حيث رأى بعض العلماء تحريم علم المنطق كابن تيمية وابن الصلاح، ويرى النووي أن تعلمه يثير الشبه العقلية في مسائل الدين ولابن الصلاح قول غريب وهو أن تعلم المنطق يثير العجب والتكبر!
أما أبو حامد الغزالي فعرف عنه تحفيزه على تعلم المنطق ويرى أهميته للمتعلم، بل كان يقول من لا يعرف المنطق لا يوثق بعلومه وقالوا عن الغزالي: إنه (أسلم المنطق) وبما أنه قد تبحر في الفقه والعقيدة حاول أن يمنهج بعض علومها بحيث تنسجم مع أدوات المنطق.
والسؤال الذي قد يخطر على بال القارئ هل نجح الغزالي في أسلمة المنطق أم أنه واجه بعض العقبات؟!
لا أملك إجابة شافية!
بعد الغزالي جاء ابن رشد الأندلسي وعارض الغزالي في تكفير الفلاسفة وغيرهم من المتكلمين وألف في ذلك كتابا سماه (تهافت التهافت).
والذي يرد فيه على كتاب الغزالي (تهافت الفلاسفة) في بعض آرائه حول الغيبيات وقِدَم العالم وخلق الزمان، فالغزالي يرفض أفكار ابن سيناء والفاربي وقبلهما أرسطو ويمكن تقسيم موقف الثقافة العربية من المنطق إلى ثلاثة مواقف:
الموقف الأول: هو رأي الفلاسفة كالفارابي الذي كان يلقب بالمعلم الثاني بعد أرسطو وابن سيناء وابن رشد وأتباعهم الذين استلهموا المنطق حيث إنهم حاولوا تسخير بعض النصوص للمنطق بطريقة لا تبدو أحيانا مقنعة، وهم يميلون إلى العقل والاستدلال المتسلسل في الإقناع دون حدود.
الموقف الثاني: هو موقف الغزالي الشهير الذي رفض أفكار الفلاسفة وكفرهم مع أنه لم يرفض المنطق الذي حاول أقلمة النصوص مع المنطق والفلسفة عن طريق التأويل صعب على بعض المتأخرين قبول آرائه.
الموقف الثالث: موقف رافض لتعلم المنطق بحجة أنه يبعث على الشبهات ويثير التساؤلات العقلية التي تجر للالحاد والتشكيك في الغيبيات.
وتلك المواقف المتباينة كان لها أثرها الفاعل في ثقافتنا في العصر الحديث حيث تناثرت الآراء والأفكار يمنة ويسرة اشتعلت الصراعات الفكرية التي لا تخلو من تناقضات أحيانا فقهية وعقدية حيث تعددت الفرق، والمدارس، والمذاهب، فظهر المتشدد جدا، والمتسامح، والمفرط والمؤمن، والملحد، ولعل تلك المواقف من المنطق جعلت المتلقي العادي متذبذب التفكير، بل كانت طرق الإقناع عند العربي تبدو أحيانا هشة في أدواتها، حتى الحجج تعاني من التثبت في بعض المواضع، بل إن الحوارات و المناظرات قل أن تخرج بنتائج واضحة المعالم.
ورأينا الأثر في الكتاب العربي الذي لايكاد يصدر إلا ويتصدر له من ينقضه، وقرأنا ذلك عند بعض الكتاب، ولا عتب عليك أخي القارئ لو رأيت مقالتي هذه تبدو لك متناقضة، فأنا أبقى ضحية لتلك المواقف! وشهدنا الارتباك الثقافي والمعرفي عند فئة من النخب المتحدثة في القنوات التلفزيونية، وبعض المنتديات العامة التي أحيانا يسودها الضجيج، وقد نستثني بعضها خصوصا ممن أحسنوا استخدام أدوات المنطق وشهدنا كيف كان مستوى التقبل والتصديق لدى العربي العادي سهلا دون تمحص في الحجج والأدلة، وربما اقتنع بجمال اللفظ ورونق المتحدث وقداسة القائل دون السؤال عن الكيف، لذلك بات من السهل رواج الخرافة بيننا، وقد نجد الحماس لها والدفاع عنها، بيد أن عصر الألفين وبعد ظهور الشبكة العنكبوتية تحسن الوضع في منطوق المتحدثين إلى حد ما وصار من الصعوبة أن يتقبل المتلقي كل شيء، حيث سهولة البحث وتهميش النخب المزيفة، وتمحيص المراجع، وبروز قيمة الحجة، والمصدر والتوثيق، والارتقاء في مستوى طرح التساؤل؛ كل ذلك ساعد في تحسن نسبي في مستوى الحوار وأسهم في تساقط بعض أوراق الخرافة التي كان للمكتبة العربية دور جزئي في إنباتها وسقياها.
** **
- صالح بن سليمان الربيعان