في شهر ديسمبر كنت على موعد في رحلة من الشتاء إلى الشتاء!
حين تقرر أن التحق بدورة تدريبية في مدينة «تورنتو» الكندية!
أمي لؤلؤة قلبي تُعد حقيبة سفري تضع فيها كل ما تعتقد أنني قد أحتاج إليه من حبة الإسبرين إلى مظلة المطر!
أنظر إليها وهي تقوم بترتيب أشيائي وقد تبللت من عطر دموعها وكأن هذه الدموع جزء من زاد السفر نهر على أن أحمله في حقيبتي وذاكرتي وقلبي!
صعدت إلى غرفتي كي أرتدي ملابس السفر ووقفت أمام المرآة ببدلتي السوداء الجديدة بربطة العنق الحمراء وشعرت أن أشيائي المبعثرة من حولي تسخر من ملابسي وتعاتبني على الفراق!
كل شيء في غرفتي كائن حي بيني وبينها ألفة ولغة حتى الصوت الأخير لمفتاح قفل الغرفة كأنه أنين وجعها من الفراق!
وعند توديع أمي كانت فصاحة الصمت بيننا تعبر عن لوعة الفراق والحنين قبل الحنين!
حضنتني أمي ومن عينيها تفر منهما المدامع رغم محاولة حبسها لتسيل فوق وجان فاضحة وحلقها الطاهر يبتلع الكثير من مدامعها حتى لا أغرق فيه!
أخذت أمي لولوة تمسح شعر رأسي تُعيد تصفيفه بيديها فعلق خاتمها الشرقي الأنيق بين شعري ومشاعري!
أخرجتُ خاتمها مبتسمًا وأعدته برفق إلى إصبعها قبلت يدها ومسحت دمعتها بيدي وحملت حقيبتي وغادرت حضن أمي وخيمتنا الأسمنتية واتجهت إلى المطار ...!
في الطائرة جلست في المقعد المخصص لي كنت مرتبكا ارتباكا لا يليق معه أن أبخل بابتسامة في وجه المضيفة الحسناء وهي تطلب مني ربط الحزام!
أقلعت الطائرة لتسبح في بحر الظل بدأت أشعر أن أسد الغربة يتسلل من قفصه إلى قفصي الصدري ليزأر في صدري فزاد نبض قلبي داخلي!
إنها الرحلة الأولى بعيدا عن جنة الوطن وفردوس أمي ومع مضي ساعات الرحلة الطويلة عقارب الساعة تلدغ القرب وأجنحة الطائرة وأزيزها يأخذني إلى البعيد!
في مطار تورنتو هبطت الطائرة وكانت ليلة ممطرة والثلج يتساقط تخيلت أن المطر والثلج سيطفئ كل الأنوار فشعرت بعتمة قد لا يراها إلا أنا وبعض الغرباء مثلي!
رأيت حسناوات شعر أشقر وعيون زرقاء وقوام ممشوق مثل فتيات أغلفة المجلات وأبطال الأفلام الأجنبية التي نتابعها أحيانا!استعدت نظراتي حين استعدت كلمة (أمي) «انتبه لنفسك» لأقف أمام موظف الجوازات نظر إلىي وفي جوازي ختم بختم الوصول لكن إحساسي بالسفر باقٍ!
أنهيت إجراءات الدخول بالمطار وخرجت من بوابته والمطر والثلج لا يزال يتساقط!
صاحب التاكسي العجوز حمل حقيبتي أعطيته ورقة صغيرة فيها عنوان الفندق الذي حجزت فيه.. صوت الرعد ولميع البرق وارتطام الثلج على السيارة يخيفني!
وصمت لسان ومشاعر الرجل العجوز تخيفني!
شعرت أن تورنتو مدينة كبيرة وهذا المطر والثلج جاء ليغسل أمانها حتى تعرت المخاوف.. وحين أُغمض عينيّي هروبا من المنظر أُبصر قلبي كأنه في هذه الليلة الموحشة أكبر أحياء تورنتو خوفًا وغربةً وضجراً!
وصلنا إلى الفندق أعطيته الأجرة وحملت حقيبتي!
في الفندق.. دلفت إلى بهو الفندق الكبير مطره ضياء ودفء!
وكراسي أنيقة ملونة في زواياه يجلس عليها أشخاص ضوء جمر سجائر التبغ في أيديهم وبين الشفاه مثل ضوء الشموع التي بينهم وموسيقى هادئة تمتزج بهمساتهم وخافت ضحكاتهم!
انتعلت الرخام الأحمر قادني إلى الاستقبال وثيابي مبللة وارتباكي لم يجف بعد!
وبصوت مبحوح ألقيت التحية على موظفة الاستقبال الباسمة التي لم تكن شقراء ولا عيونها زرقاء..
ولا شعرها أصفر مثل نساء رأيتهن في المطار!
كانت جميلة جدًا شعرها أسود مثل لون مياه البحر في الظلام ووجها مشرق بالبياض كشاطئ من اللؤلؤ الأبيض..
وعيونها عسلية زخرفت منابت الأهداب بالكحل حين تنظر إلي بعينيها أشعر أنها تنطق بشاشة ولباقة بلا كلام!
قالت بالإنجليزية مرحبًا في تورنتو إقامة سعيدة في الفندق والمدينة!
أعطيتها جوازي وبقية الأوراق قالت أحتاج بعض الوقت لتسجيل بياناتك سيدي!
صرت أشعر بشيء من الارتياح لهذه الحسناء وأثناء تأملي لأناقتها لمحت سلسالاً من الذهب يزين عنقها وفيه قلب صغير نُقش عليه حرف «غ» بالعربي..
فنظرت إلى اسمها منقوشًا في «برشور» ذهبي في معطفها الكحلي (GADAH)!
قلت لها غادة هذا الاسم عربي!
رفعت رأسها ومعطف الفرو على كتفيها مستديرا على رقبتها الطويلة فبدت كأنها أجمل حمامة بيضاء!
قالت .. أنا كندية من أصل عربي!
وشعرت كأنها لا تريد أن تتحدث معي بالعربي ربما اللغة الرسمية في العمل هي الإنجليزية!
قالت لي السيد عبد العزيز مطعم الفندق الآن مغلق والوقت متأخر، يوجد في هذا الشارع مطعم عربي للمشويات لذيذ إن رغبت العشاء وفيه طرب عربي وراقصة تجيد الرقص الشرقي (قالتها وهي تبتسم)!
قلت لها: أشكرك لا أشعر برغبة في العشاء!
نادت على العامل وقالت أحمل حقيبة السيد عبد العزيز إلى غرفته رقم 331 في الدور الـ31!
شكرتها بالعربي فكان جوابها ملحنا بالعربي حين قالت عفواً عبدالعزيز!
بعض التفاصيل الصغيرة تخفف هاجس الغربة!
الغرفة 331
دخلت إلى الغرفة الواسعة..
سرير أنيق مدجج بلحاف شتوي ومفرش شتوي لمقاومة هذا الصقيع الذي لا يزال جيشه الأبيض يتساقط على المدينة ويقرع نافذة غرفتي والصوت يٌفزع دفء الصمت داخلي..
والأرض مفروشة بسجاد خيوط الصوف تلمع مع نور المصباح الأنيق الذي يشع من سقف الغرفة..
وفي زاوية مكتب علية مصباح قراءة صغير يتوهج على الأوراق وبجواره تلفزيون أمامه..
كرسي للجلوس من القماش الفخم!
وفي لحظة تأمل الخيال ومارس المقارنة بين غرفتي هنا وغرفتي هناك!
هناك غرفتي في عنيزة تطل على بستان نخيل فيه تنام العصافير آمنة في دفء عشها وهنا غرفة تحلق في على ارتفاع شاهق وتطل على غابة أسمنية كل ساكنيها أفزعهم الصقيع والثلج والمطر!
توضأت وصليت المغرب والعشاء..
فتحت حقيبتي لا أتفقد أشيائي التي رتبتها أمي الغالية فوجدت علبة صغيرة فيها إسبرين ودواء الزكام وفيكس..
إنها صيدلية أمي!
ووجدتها قد وضعت رغيف خبز كأنها زرعت بستان قمح وعلبة الجبن السائل التي أحبها..
ما أحنك أمي أعددت عشائي وبيننا آلاف الأميال!
وتبسمت حين وجدت أمي قد وضعت ساعة المنبه وقد ضبطتها على آذان الفجر في عنيزة!
اتصلت على غادة وطلبت الشاي قالت سوف أعده لك بنفسي وبعثته لي!
رغم أن الرحلة طويلة ومتعبة إلا أنني لا أشعر بالرغبة في النوم!
وأثناء ترتيب ملابسي ووضعها في الدولاب وجدت مجلة عربية ربما تكون منسية هنا من سائح عربي سكن هذه الغرفة قبلي!
استرخيت على السرير أشرب الشاي وأقرأ في المجلة وبدأت أتصفحها من الخلف وتوقفت عند صفحة تسالي وأخذت أحل الكلمات المتقاطعة وعجزت أن أكملها..
وأثناء تصفحي المجلة كان فيها لقاء مطول مع راقصة عربية وكان لها عدة صور تبرز أنوثتها الطاغية..
بدأت أقرأ في الحوار وكان هناك سؤال غريب فيه جرأة من الصحفي!
ولكن أقل من جرأتها حين ترقص وتهز خصرها وتغمز بعينيها!
الصحفي يسأل الراقصة: ما هو أسخف ما في الراقصة!؟
أجابت الراقصة قائلة: إن أسخف ما في الراقصة هو دفاعها عن الحشمة من خلال يأسها!
وضعت المجلة على المنضدة وصرت أفكر بهذه الإجابة أحاول أن أفهم المقصود وتفسير كلامها!
ربما تعني حالة الابتذال لجمالها في الوقت الذي ترى أن ما تقوم به فن ....ربما!
ربما أن الرقص الشرقي هو فن نشأ في مجتمع يتعارض مع قيمه الدينية والاجتماعية وهي تؤمن بهذه القيم وتعمل عكسها... ربما!
ربما هو صراع نفسي داخلي لديها نتيجة أنها ترى نفسها في دائرة الخطأ وأنها غير راضية عن نفسها ربما!
وفي حيرة التفكير عدت فتحت المجلة وصرت أقرأ في عينيها أبحث عن الإجابة.. ثم تمتمت ليتك يا فاتنة.. تكوني معي الآن في غرفتي لا لكي ترقصي أو أنام معك لا سمح الله....!
أنا أحتاج إلى شفتيك. فقط... لا أريد منها قبلة!
ولكن انطقي منها بكلمات قولي أريد أن أفهم ما هو أسخف ما فيك؟
وكيف امتلكت قوة الدفاع عن الحشمة؟
وهل في اليأس قوة!؟
عزيزي القارئ
ما تفسيرك أنت؟
أنا عجزت عن فهم إجابة الراقصة ولذا أجدها حيرة معي كقطعة ثلج في ليلة الثلج سقطت في غرفتي ولم تذب بدفء سريري!
وتذكرت عادل أمام في مسرحية شاهد ما شافش حاجة وهو يصف الراقصة..
إنها كانت لابسة من غير هدوم!
** **
- عبدالعزيز حمد الجطيلي
ayamcan@hotmail.com
twitter: @aljetaily