د. إبراهيم بن محمد الشتوي
الحديث حول (اللغة والمجتمع) حديث طويل يتناول نظريات وأبحاثاً كبيرة، بل هو حقل معرفي يعود إلى النقد الماركسي الذي تعود بدايته عند لينن في أعماله النقدية، وما مر به من تحول تداخلت فيه الدراسات اللغوية بالمجتمع بالأدب والنقد، لا يمكن تناوله بكتاب بل مقالة واحدة، بيد أني سأنطلق من القضية التي قالها المتخصصون فيه عن صلة اللغة بالطبقات أو الفئات الاجتماعية.
فمما قالوه في هذا الصدد أن اللغة كائن اجتماعي يتأثر بالمجتمع المحيط به، وعليه فإنه ينقسم مثل انقسام المجتمع إلى فئات أو طبقات، فتجد الصناع لهم لغتهم، وتجد الحرفيين لهم لغتهم، والموظفين لهم لغتهم وكذلك المعلمون (اللغة تعني المستوى اللغوي الذي يشمل المفردات الخاصة، وما قد تشتمل عليه من معانٍ ودلالات مغايرة لما يفهمه من هو خارج دائرة المستعملين الضيقة)، كما أن الطبقات الاجتماعية أيضاً لها لغاتها، فالفقراء لهم لغتهم، والأغنياء لهم لغتهم التي يختلفون فيها.
ويعيد المتخصصون في هذا الحقل التباين اللغوي إلى أن الأغنياء يتعاطون في حياتهم اليومية شؤوناً وموضوعات مغايرة لشؤون الفقراء وموضوعاتهم ما يجعل لغتهم تتأثر بهذه الشؤون.
ولأن غالب النماذج التي يذكرها المتخصصون تعود إلى الألفاظ ودلالتها التي تميز كل طبقة أو فئة عن الأخرى، فإن النقاد وعلى رأسهم باختين في دراسته النقدية قد عد هذا التمييز بين اللغات مما ينبغي أن تتمايز به الشخصية الروائية، فلا ينبغي مثلاً للعامل أن يتحدث في النص الروائي كما يتحدث العالم، كما لا ينبغي للمزارع البسيط أن يتحدث مثل ما يتحدث صاحب التجارة العريضة، وإذا ما حدث ذلك فسيعد عيباً يؤخذ على الكاتب الذي لم يتمكن من جعل اللغة تعكس الشخصية الروائية جيداً.
ولست بصدد الحديث عن الأسباب المؤدية إلى هذا الاختلاف سوى ما ذكره العلماء السابقون من تأثير الظروف الاجتماعية إلا أن الذي أريد أن أقف عنده هو ما ذكره باختين من أن هذه المستويات اللغوية قد تتداخل في الرواية، بمعنى أن مستوى لغوياً قد ينتقل إلى مستوى اجتماعي لا يتصل به عادة، فيتحدث مثلاً العامل بلغة العالم أو العكس، أو قد يتحدث الفلاح البسيط بلهجة السيد صاحب التجارة العريضة.
وقد جعل هذا من أدوات الرواية الهزلية، وذلك أن الكاتب - من وجهة نظر باختين- حين ينطق إحدى شخصياته كلاماً بلغة مستوى مغاير فإن هذا يأتي على سبيل السخرية أو المحاكاة الهازلة، وهذا يجعلها في الإضحاك والتندر أكثر من الجد والحقيقة.
وبعيداً عن التفسير السياسي لهذا الدمج بين المستويات اللغوية في النص الروائي (خاصة حين يكون الموقف لا يحتمل ذلك) فإن الذي أتحدث عنه هنا ليس الجمع في النص الروائي كما في فعل باختين، وإنما في الحياة الواقعية، فإذا عرفنا أن هذا المستوى اللغوي ليس مستوى منفرداً وإنما هو جزء من منظومة اجتماعية عمادها الطبقة التي ينتمي إليها، وهو ما يعني أن هذه اللغة ترتبط بالعادات الاجتماعية لمتحدثيها، ومستواهم الثقافي والعلمي، الأمر الذي ينعكس على ما يملؤون به أوقاتهم بعد ذلك. ما يعني بدوره أن المستوى اللغوي نتاج جماع مكونات مختلفة كالفهم، والتفسير، والمعنى الذي يتأثر بالظروف سابقة الذكر ويتكون من خلالها.
فإذا انتقلت لغة طبقة إلى طبقة أخرى في الحياة الواقعية، فإن هذا الانتقال لا يعني انتقال الجملة وحدها، أو العبارة أو حتى المفردة، لأن الانتقال بهذه الصورة لا يعني شيئاً، وإنما لا بد من انتقال كل الظروف والمكونات المحيطة بها حتى تؤدي دلالتها، وحين يتم ذلك، فسيتم في الوقت نفسه مزج أكثر من طبقة؛ الطبقة الأصلية التي نقلت عنها اللغة، والطبقة الأخرى التي نقلت إليها، ولأنه نقل لا يختص باللغة نفسها فإن هذا يعني أن هذا النقل سيؤدي إلى المزج بين الطبقتين من حيث -ما يمكن أن أسميه - عقل كل طبقة، ولأنه ليس على سبيل الإضحاك -كما في النص الروائي- (أو في الواقع، وسبق أن تحدثت في بلاغة النكتة عن أنها تقوم على الجمع بين سياقين مختلفين أو ما يسمى بالمفارقة) فإن هذا سيؤدي بدوره إلى فوضى بالوعي، وذلك أن الفهم والتفسير يقوم بدوره على أدوات معرفية وخبرات اجتماعية ولغوية؛ وستقوم الطبقة العليا باستخدام أدوات الطبقة الدنيا وخبراتها الاجتماعية في فهم اللغة وتوظيفها، بناء على أنها تستقبل المستوى اللغوي نفسه كاملاً وتتلقاه كما هو بتركيبته ودلالته، هذه التركيبة والدلالة المعتمدة على جهاز معرفي (ابتستمولوجي) كامل.
ولنأخذ مفاهيم جوليا كريستيفا في إيضاح هذه الفكرة، فالنص عندها «جهاز عبر لغوي»، والنص هنا هو الجملة المفيدة التي تنتمي إلى مستوى لغوي معين، فهي هنا «جهاز عبر لغوي» بمعنى أنها تصل إلى الوعي عن طريق اللغة، و»جهاز» أي مجموعة مكونات مترابطة فيما بينها ذات نظام معين يتحكم في سيرورتها، وعندما تتلقى الطبقة هذا (الجهاز) فإنها تخضع لنظامه المعين حتى تتحقق سيرورته بين أفرادها، وهذا ما يحدث «فوضى الوعي» الذي يحدثه استعارة مستوى لغوي في مستوى لغوي آخر بناء على اختلاف الطبقة الاجتماعية المنتجة لهذا الجهاز (الجملة).
هذه الفوضى في الوعي ستنعكس بعد ذلك على جوانب أخرى مما سميته من قبل بـ«عقل الطبقة»، فتؤثر على خاصية الاستقبال والتقويم، والإدراك، والحكم على الأشياء بعد ذلك، وهي قضية ذات أهمية من الناحية المعرفية والنفسية على أقل تقدير.