خالد بن حمد المالك
يُعَرَّف التسامح ضمن تعريفات أخرى كثيرة بأنه العفو والمسامحة، بمعنى العفو عن الخطأ، والموافقة على الصفح، وعدم مقابلة الإساءة بالإساءة، ودفع السيئة بالحسنة، ومن دون صدور أي عمل يقوم على التكفير، أو تهميش وازدراء أي رأي مخالف، وامتدادًا فإن التعصب هو نقيض التسامح، وفي العديد من الدراسات والبحوث هناك تفاوت في الآراء حول دلالات مفهوم التسامح وضوابطه.
* * *
ويقتضي المقام هنا أن نشير إلى أن الإسلام هو دين التسامح، واليسر، والرحمة، والسلام، وأنه يحث على حرية التعبير، ومنع القمع، وأنه عقيدة، ومنهج، وسلوك، وأن التسامح يقوم على أساس معرفة الحقوق، والواجبات، كون التسامح فضيلة لا يجوز أن يُلزم به من لا يرغب في ذلك، بمعنى أن التسامح في الإسلام لا يلغي الحقوق والواجبات إلا برغبة صادقة من المتسامح، دون إكراه فيها، فالممنوح فوق هذه الحقوق والواجبات يُسمى تسامحًا، لأنها فوق حقوقه التي أقرها له الإسلام، أي أنه تم التسامح على منح الآخر ما ليس له به حق.
* * *
ووفق هذا المفهوم عن التسامح، فهو بذلك أقرب إلى مفهوم اللا عنف، واللا عنصرية، أي أن الخلافات يكون حلها عن طريق الحوار والتفاهم، وصولاً إلى السلام، وإلى التعايش السلمي، تمكيناً لثقافة تقوم على قبول الأفراد والمجتمعات برؤى وقناعات مختلفة، دون أن يلزموا بما لا يكونوا على اقتناع به من الآراء ووجهات النظر التي يحملها غيرهم، مع رفض استخدام العنف لتغيير المواقف متى كانت تختلف مع غيرها، التزامًا بمبدأ الاحترام المتبادل.
* * *
وعندما نتحدث عن التسامح، فعلينا أن نتذكّر أنه يقود النسيج الاجتماعي إلى التماسك، مهما تنوَّعت واختلفت انتماءات أفراده، وتوجهاتهم، وثقافاتهم، ودياناتهم، ومذاهبهم، وقبائلهم، وأعراقهم، لكن يجب ألا يغيب عن أذهاننا أن (التسامح في غير موضع التسامح يعد من أهم أسباب النزاع بين المسلمين، كالتنازل عن حقوق الشعب مثلاً بدعوى التعايش مع العدو، وغالبًا ما يؤدي ذلك إلى فتن تقع بين المسلمين).. وهكذا.
* * *
في مثل هذا اليوم يحتفل العالم باليوم العالمي للتسامح، وقد انطلقت هذه الاحتفالية بمناسبة الذكرى الخمسين لقيام اليونسكو في 16 نوفمبر 1995م، وهذه المناسبة تنادي العالم ليكون أكثر تسامحًا مع أنفسنا ومجتمعنا ومع الغير، ويطالب كثير من المهتمين بالشأن التسامحي، بأن يكون التسامح على مدار السنة، للتأكيد على احترام التنوّع، وتقدير الغنى الثقافي، والاعتراف بحقوق الإنسان، واحترام الحريات، على أن التسامح لا يعني أن يتم التساهل في الحقوق، وإنما أن يكون ذلك وفق قيم إنسانية، تعزيزًا لقيم التسامح في المجتمع، مهما تعددت انتماءاتهم، واختلفت أعراقهم، وألوانهم، ودولهم، ولغاتهم.
* * *
لقد ضاقت المجتمعات من التعصب، والكراهية، والخلافات، وآن لها أن تتآخى، وتتحاب، وتتعاون، وتنبذ كل ما يوسع الصراعات، ويوغل الصدور، فالحياة فيها الكثير من القواسم التي تجمع، والجميع مدعوون لتعميرها، بالتعاون، والتقارب، وإرساء القيم التي تدعو إلى التسامح، وفهم الآخر، والشعور بأن التسامح يقود إلى التكاتف، والسلام، والاستقرار، والطمأنينة، والمساواة بين الناس في جميع مناحي الحياة، بعيدًا عن الكراهية، والبغضاء، والعنف، والتعصب، والتكفير، باعتبار ذلك منهج حياة.
* * *
ومما قرأت عن مفهوم التسامح في الإسلام (أنه يحمل قيمة مخصوصة ومرغوبة، فهو لا يكون في الشرائع والحدود والمحرّمات، ولا يطال القوانين والقضاء، وإنما يخص العلاقات الناظمة لتواد الناس ومعاملاتهم وحسن معاشرتهم، بترك ما لا يجب تفضلاً وتنزهًا، بكرم يظهره القوي صاحب السلطة، والحق على الضعيف المتكمل بأداء الحق والملزم به، مع قدرة الأول على تحصيل حقه، ثم يتركه صفحًا وعفوًا، وتتجلَّى قيمة التسامح في الإسلام من خلال تعميم النظرة الأخلاقية، والإنسانية في المساواة، والعدل، والاعتراف بالآخر، واحترام المناهج، والأفكار، والمعتقدات، والاختلافات) باحترام وحب، ودون اضطهاد أو تعصب، كون التعصب نقيض التسامح، ويعني رفض الآخر، بدلاً من التسامح وقبول الآخر، لتجنب الصراعات والحروب، وكل ما يؤدي إلى التناحر والعنف.
* * *
ويشير عددٌ من الباحثين إلى أن (التسامح لا يعني التساهل في الالتزامات بتعاليم الدين، كما لا يقصد به التنازل عن الحقوق الأساسية الضرورية للحياة، سواء أكانت حقوقًا فردية كحق الحياة، وحق العمل، أو حقوقًا جماعية، وأن يكون تسامحًا في حزم، أي أن يكون التسامح في الموضوع الذي يكون فيه التسامح خيرًا، كما يجب ألا تُحكم العاطفة في العفو عن الحياة، وإنما توفر الرحمة والرأفة، وأيضًا الحزم والعزيمة والقوة)، وهذا يعني أن هناك ضوابط وشروطاً ومتطلبات للتسامح يجب الالتزام بها.
* * *
وتقع على المؤسسات التربوية مسؤولية نشر ثقافة التسامح، ومثلها المؤسسات المجتمعية، لزرع ثقافة التسامح في نفوس منسوبيها، من خلال أساليب التربية التي تؤثِّر في ثقافة ومفاهيم الأجيال الصاعدة، باستخدام أساليب حوارية، ويشمل ذلك توعيتهم بأن التسامح يبدأ أولاً مع النفس، ثم مع الآخرين، وأن التسامح يجب أن يكون حاضرًا في البيت والشارع ومكان العمل والمدرسة والمسجد، وأينما كان هناك تواجدًا للفرد، وذلك باستخدام أنجح الوسائل لنشر ثقافة التسامح في المجتمعات وبين الأفراد، فاليونسكو ترى أن التسامح يتحقق باحترام وتقدير التنوّع الغني في ثقافات هذا العالم، وبالاعتراف بحقوق الإنسان العالمية، وبالحريات الأساسية للآخرين، دون تساهل أو عدم اكتراث، فالاختلاف بين الناس في عقائدهم، ولغاتهم، وأجناسهم، سنة كونية جعلها الله بين البشر، لتكون كما يفسرها الباحثون دافعًا للتآلف، والتعاون، والتعارف، والتسامح على المستوى الإنساني يتجلَّى في القدرة على قبول الآخر المختلف، واحترامه، ومحاورته، وقبوله، والاعتراف به، وعدم ازدرائه، وثقته بنفسه.
* * *
وتقتضي هذه المناسبة الاحتفالية، أن نذكر بأن التعصب، والعنصرية، والإقصاء، والعنف موجود على امتداد العالم، ما يعني أن ثقافة التسامح ما زالت تواجه الكثير من التحديات، وتنذر بما هو أسوأ مما نراه الآن، إذا ما ظلت الصراعات قائمة على أساس الدين، والمذهب، والطائفة، والانتماء، والموروث، والعرق، والجنس، والقومية، والمعتقد، وامتدادًا على مستوى العلاقات الدولية، حيث تنتشر الحروب، والنزاعات، والعنف، دون أن يترك التسامح أثرًا، أو يطفئ لهيب الصدام السياسي والعسكري بين الدول.
* * *
وفي الشأن الإعلامي، فإن وسائل الإعلام شريك أساسي وإستراتيجي في تأصيل قيم التسامح على مستوى الأفراد والجماعات وبين الدول، ويمكن لها أن تلعب دورًا مؤثّرًا في حماية النسيج الاجتماعي، وترسيخ قيم التعايش والتجانس، وصولاً للعيش المشترك، والتصدي إلى خطاب الكراهية، والعنف، والتطرف، والإقصاء، والغلو، ونبذ التمييز، والتعصب، غير أن هذا يتطلب من الإعلاميين استشعار عظم المسؤولية، والقيام بها بما يعزِّز فهم القيمة الحقيقية لمبدأ التسامح، وتجنب التعصب بكل أشكاله وألوانه، وهذا يعني أن نلتزم بمهنية إعلامية موضوعية عالية، بما في ذلك الصدق، وحرية الرأي وتعدده، وتوفير المعلومات التي تلامس إقناع المتابعين بأهمية التسامح، وأن يصاحب ذلك البعد عن الإثارة التي تفتقد إلى الموضوعية في عرض المعلومات، والالتزام بالحياد، لضمان تحقيق التواصل مع الجميع، وتمكن المختلفين في الفكر والدين والتوجهات من عرض آرائهم في وسائل الإعلام، والاهتمام بتدريب الكوادر الإعلامية لتكون قادرة على خدمة ثقافة التسامح، ومنع الخطاب المتشدِّد، دينيًا، وثقافيًا، وسياسيًا، ضمن تنمية الوعي بأهمية التسامح، وغرسه لدى أفراد المجتمع.
* * *
وإذا سلَّمنا بأن وسائل الإعلام تلعب دورًا محوريًا في بناء رأي عام من خلال ما ينشر أو يعرض فيها، أدركنا أهميتها في مساندة قيم التسامح، خاصة إذا ما تم تطوير الخطاب الإعلامي، ليتوافق مع الدور المطلوب من المؤسسات الإعلامية، وبما يتفق مع المبادئ التسامحية التي اعتمدتها ووافقت عليها الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة في باريس عام 1995م، على أن التسامح هو الوسيلة الوحيدة التي تؤدي إلى السلم، وحيث إن الوثيقة عرَّفت التسامح بأنه (الاحترام، والقبول، والتقدير، للتنوّع الثري لثقافات عالمنا، ولأشكال التعبير للصفات الإنسانية، وأن هذا التسامح يتعزَّز بالمعرفة، والانفتاح، والاتصال، والحرية). فإننا بذلك أمام خارطة طريق واضحة لتأصيل التسامح بين الأفراد والمجتمعات والدول.
* * *
وفي المجمل، فإن المطلوب من وسائل الإعلام أن تقرِّب المسافات بين عناصر الاختلاف، بتقديم ثقافة تسامحية تدفع باتجاه القضاء على التعصب، والإقصاء، ورفض الطرف الآخر، والتأكيد على التعايش السلمي مع الآخر، دون عنف أو ازدراء، وأن يعلو الصوت الإعلامي الحر، بموضوعيته، وصدقه، وحرصه على المصلحة العامة بين الأفراد من جهة، والمجتمعات من جهة أخرى، وكذلك بين الدول، لتعميق وتأصيل التوجه نحو التسامح بين الجميع، والحيلولة دون أي نزاعات أو خلافات أو حروب.
* * *
على مستوى الإعلام السعودي المرئي والمسموع والمقروء منه، التقليدي والجديد، فإنه بنظري يمارس دوره في العمل بحسب الضوابط ويلتزم بها، ويحتكم إلى القوانين واللوائح ذات الصلة بهذا النشاط، ويقوم بدوره في تعزيز منظومة القيم الإنسانية، وتحديدًا في قيم التسامح، بوصفها فطرة إلهية يحكمها العقل الإنساني، والتفكير الإيماني لدى الآخرين، وهي بكافة وسائلها ومؤسساتها التقليدية والحديثة كانت ولا تزال ميدانًا خصبًا في تعزيز منهج التسامح، ونبذ العنف والتعصب، وقبول الآخر، وإتاحة الفرصة للتعبير عن الآراء بحرية كاملة، انطلاقًا من سياستها المبنية على ثقافة التعايش السلمي، مع احترامها لمبدأ الرأي والرأي الآخر، اجتماعيًا وثقافيًا وسياسيًا.
* * *
ويمكن للمتابع أن يتأكد له حجم المضمون النقدي للسياسة الإعلامية في المملكة، وملاءمته مع مبدأ التسامح، واستجابته واحترامه للشريعة الإسلامية، باعتبار أن وسائل الإعلام المحلية بآلياتها ومحركاتها هي رسالة حب واسعة، ومنبر تسامح كبير، ورابط من روابط التآخي بين المواطنين، ضمن التنوّع الثقافي، ودعم حقوق الإنسان، وتقبل الآخر، ونبذ العنف، والتطرف، والطائفية، والكراهية، والمساعدة في تحقيق القيم الإنسانية، تماشيًا مع عرض الحقائق، والبعد عن المبالغات، والمهاترات، مبرزاً عمق وشرف الكلمة، وحمايتها من العبث، وارتفاعها عن إثارة الضغائن، والفتن، والأحقاد، مع الالتزام بحرية التعبير ضمن الأهداف والقيم الإسلامية والمصالح الوطنية.
* * *
وأخيرًا: أرى أنه من الواجب على مؤسساتنا الإعلامية في هذه المناسبة الاستذكارية بمناسبة اليوم العالمي للتسامح، أن تفكر بشكل أعمق، وتقترب بصورة أكثر، لتجعل من التسامح أيامًا للحب، والاحترام، والتأمل، والتقدير، والتآخي، والتقارب، ورفضاً للتعصب، والظلم، والخوف، والنزاع، والتمييز، والعنف، والتهميش، وذلك من خلال مقالات الرأي، والاستطلاعات، والتقارير، والتحقيقات، والأخبار والوسائط الحديثة، يشارك فيها المختصون ضمن المواد الإعلامية المتنوِّعة التي تخاطب الناس عن أهمية التسامح، ومفهومه، وآليات تطبيقه، لتكون المؤسسات الإعلامية ضمن مؤسسات المجتمع المدني حاضرة ومشاركة في هذا اليوم المهم، كون الخطاب الإعلامي له دور كبير في مواجهة ظاهرة العنف، وفي تأصيل ثقافة التسامح.
- الرياض/ مركز الحوار الوطني
14/ 11/ 2021