عبدالوهاب الفايز
نعود إلى الحديث عن أمر حيوي (ينفع الناس)، وهو: قضايا وحقوق المستهلكين.
جميعنا اليوم أصبحنا محاصرين ومضطرين للتعامل مع واقع جديد يصعب على الحكومات الإحاطة بكل أطرافه، فالأمر يستدعي أمورًا مثل تطوير أساليب الوقاية الأولية والإحساس بالمسؤولية الشخصية، وتطوير مهارات ومعارف التسوق، وتنمية الثقافة القانونية الوقائية، ويتطلب أيضًا دخول مؤسسات وجمعيات القطاع الثالث بقوة.. فـ(الجهد التشاركي) ضرورة لمواجهة التحديات الراهنة والقادمة لقضايا المستهلك.
قضايا المستهلك المألوفة لنا في العقود الماضية تغيرت، فالتطورات الكبيرة في التجارة الرقمية وتحول الأجيال الجديدة لتأمين المتطلبات الأساسية لحياتها خارج البيت تجعل الاستهلاك المفرط أسلوب حياة مدفوعًا بتطور آليات brain hacking أي اخترق الدماغ الذي يتيح حفز رغبات الشراء عبر جمع معلوماتنا ومراقبة سلوكنا ورغباتنا واتجاهاتنا النفسية والفكرية لأجل استثارة هرمونات الخوف والقلق والسعادة.
كنا في السابق نواجه قضايا محدودة تهم المستهلك، وكانت غالبًا في مجال السلع المعمرة الملموسة الضرورية، وحتى السلع المطروحة في قطاع الخدمات كانت متواضعة ومحدودة. أما الآن فقد انفجر عالم الاستهلاك، وأصبحنا نجد صعوبة لمقاومة رغبات النفس ومغالبة الاستسلام لنداء الجسد. لقد اتسعت المسارات لتقديم الخدمات والسلع، وتتنوع وتتعقد أساليب وطرق التسويق والبيع والتمويل. هذا يفرض تحديًا كبيرًا أمام الحكومات، فحماية وتوعية الناس لن تكون فعالة إذا ظلت في نطاق عملها البيروقراطي الرتيب الممل، وحدود مسؤولياتها الرقابية والقانونية، فثورة التطبيقات أتاحت التسوق الإلكتروني في الفضاء العالمي، والآن بدأنا نرى حكومات تفرض عقوبات وغرامات على شركات في دول أخرى.
والحكومات سوف تظل تواجه ظواهر جديدة متسارعة، وقد تحتاج زمنًا طويلاً لاستيعابها وتنظيمها مثل النمو السريع لظاهرة (اشتر الآن وادفع لاحقًا) التي أصبحت مجالات جديدة لتوسيع ظاهرة الاستهلاك وتراكم الديون الفردية ومجالاً للاحتيال المالي على المستهلك.
مثال آخر نجده في التطبيقات المتخصصة في خدمات السفر والسياحة. أغلب الناس تضطر للتعامل مع هذه التطبيقات، ومع توسعها واحتكارها لأسواق معينة أصبحت تفرض شروطًا قاسية على المستهلكين، مثل الدفع مسبقًا لكامل المبلغ في فترة طويلة قبل موعد الحصول على الخدمة، وتضيف شرط عدم استرداد كامل المبلغ في حالة إلغاء الطلب! هذا تجميع للأموال، وإجحاف بحق المستهلك! هذه الممارسات من يتصدى لها، الحكومات أم المستهلك؟
لقد بذلت الجهات الحكومية جهدًا تشكر عليه لتنظيم البيعة التشريعية وتطوير القوانين التي تحكم العلاقة بين المستهلك والجهات مقدمة الخدمات والسلع، وهناك مبادرات ومشاريع خرجت لتطوير توعية المستهلكين بحقوقهم، وهذا التوجه الجاد يسنده إصدار التقارير والمؤشرات المسحية الميدانية الموضوعية، ويُدعم بإجراء الدراسات والأبحاث المتخصصة، وكل هذه بداية نوعية لتطوير تجربة سعودية متميزة تنبع من مصالح بلادنا العليا وأخلاقنا وديننا.
هذه الجهود الحكومية تحتاج دخول (القطاع الثالث) لمساندتها، فتمكين هذا القطاع ضروري لأن حجم الطلب سيكون كبيرًا على برامج الإرشاد والدعم والمساندة القانونية والتوعية والتثقيف حتى يصل المستهلك إلى حقوقه، ولأجل حماية البيئة التنافسية الإيجابية، ولجعل الأطراف كلها شريكة في الحل ومواجهة التحدي، ولأجل تحويل العلاقة بين المستهلك ومقدمي الخدمات والسلع إلى علاقة تعاون ومشاركة عبر تطوير برامج الولاء للعملاء وخدمات ما بعد البيع.
هذه الروح الإيجابية التشاركية ضرورية حتى يستفيد التاجر والمستهلك من العلاقة الإيجابية بينهما. وهذه الروح لا تنمو بالأحلام والأماني الطيبة، بل تقوم من البرامج والمشاريع التي تنمي هذه الروح، وهنا يأتي مدى كفاءة صنع السياسات والتنظيمات والتدخلات الحكومية، فهذه هي التي تربي وتطور وتبني العلاقة النابعة من القناعة الأخلاقية والمسؤولية الوطنية، وهذه الروح الإيجابية التي نتطلع إليها هي الأسلم والأسهل، وهي التي (تقلل من تدخل الحكومة الواسع) في فرض التشريعات وإنفاذ الأنظمة.
الأفضل للحكومة تحويل الجهد الأكبر لكل شؤون حماية المستهلك إلى (خدمة مجتمعية) يتشارك ويتشاور ويتعاون القطاعان الخيري والخاص والناس في تقديمها، ويبقى دور الحكومة الدعم والمساندة والمراقبة لضمان نجاح المشاركة بين هذه الأطراف.
الحكومات وحدها لن تستطيع المراقبة والمتابعة، وتدخلها غير الذكي له محاذيره السياسية. تدخلها يرفع سقف التطلعات، وتخضعه أطراف العلاقة للفحص والتقييم الحذر. وفي قضايا المستهلك عادة كل طرف يرى أنه على حق، والحكومات غالبًا تميل إلى صاحب العلاقة الأضعف في المعادلة، وهذا لا يخدم الاستقرار الاجتماعي، ويؤسس لعلاقة تقوم على الحذر والشك وعدم الثقة بين المواطنين، فالمستهلك مواطن والتاجر مواطن، والحكومة مطلوب منها العدل بينهما.
الذي يخدم هذا المسار تشجيع قيام (شركات للاستثمار الاجتماعي)، متخصصة بحماية المستهلك، وهذا سوف يكون له أهداف عديدة منها: يطور التجربة السعودية، ويحقق الاستدامة المالية وتوسيع الأثر، ويتيح تطوير المنتجات الاستثمارية التي تخدم المستهلكين لأجل تفعيل المتطوعين من المحامين والمستشارين القانونيين. أيضًا يوجد آلية غير مكلفة للناس للوصول إلى حقوقها، ويوجد ضغط فني إيجابي على المنشآت التجارية لتطوير عملها وبرامجها لخدمة العملاء، وتوجد الآلية لمشاركة الجهات التشريعية والقانونية، ويقلل على الحكومة أعباء المتابعة لقضايا المستهلك.. والأهم يساهم في إدخال الجمعيات العلمية المتخصصة للمساهمة في توعية المستهلك، وحتى تقدم الخبرة الفنية الميدانية التي تحتاجها الجهات الرقابية والتشريعية السيادية مثل مجلسي الوزراء والشورى.
هذا حلم، وعسى أن يتحقق.. والحمد لله أن بلادنا فيها الغيورون الأخيار المشغولون بتحقيق الأحلام!