د.محمد شومان
طرح التطور الكبير في مجالات تكنولوجيا الاتصال والرقمنة والذكاء الاصطناعي تحديات جديدة على مفاهيم ونظريات الدراسات الإعلامية وأدواتها البحثية، خصوصا في مجال تحليل الخطابات الإعلامية في وسائل الإعلام التقليدية أو الجديدة، فقد ظهر نموذج اتصالي جديد، يلعب فيه المتلقي دوراً كبيراً في رفض الخطابات الإعلامية أو تعديلها أو إنتاجها، لقد حدثت تغييرات هائلة في المشهد الإعلامي حيث يسمح الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي للمواطنين والمجتمع المدني والسياسيين ونخب رجال الأعمال بتجاوز وسائل الإعلام التقليدية والتواصل المباشر مع بعضهم البعض، ومع الجمهور.
وتشير هذه التحولات أيضاً إلى علاقات جديدة بين المنتجين والقراء، تتضمن عمليات إنتاج جديدة يجب فهمها من أجل فهم الأحداث الاجتماعية وراء النصوص الإخبارية. القصد هناك آثار وتداعيات جديدة تؤثر في كيفية تشكل النصوص والخطابات والأيديولوجيا في النصوص. من ناحية ثانية أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي نفسها جزءًا أساسيًا من مصادر المحتوى الإخباري، وصار المشهد الإعلامي الجديد هو «مجتمع الأحداث»، وهو مصطلح يستخدم لالتقاط الطريقة التي تميل بها وسائل التواصل الاجتماعي إلى احتواء تدفق مستمر من الأحداث الجادة والتافهة، التي تتحكم فيها الخوارزميات والإعلانات وشرائح وفئات مختلفة من الجمهور غير المتجانس، أو بتعبير بعض الباحثين أصبحت الخوارزميات نفسها صانعة الخطاب أو العلاقات الاجتماعية.
هذه الأوضاع الجديدة تتحدى بقوة المنطلقات النظرية للتحليل النقدي للخطاب، كيف؟
لقد سعى التحليل النقدي للخطاب للتحقيق في الخطابات والكشف عن عمليات الهيمنة الايديولوجية، وتحليل استخدام اللغة لإظهار عمليات التلاعب وصنع المعاني للتأثير في العقول وربما الأفعال، وكان الافتراض الرئيس أن عمليات التلاعب والهيمنة تجري من أعلى إلى أسفل، أي من النخب إلى الجماهير، لكن هذا الافتراض وغيره من افتراضات الدراسات النقدية للخطاب لم تعد صحيحة تماماً، فالخطابات تنتج وتوزع بين الجمهور أي من أسفل إلى أسفل أو من أسفل إلى أعلى، وبالمثل هناك خطابات تنتج – بشكل تقليدي وكالمعتاد - ويجري الترويج لها من أعلى إلى أسفل، كيف إذن نحلل تلك الخطابات، وهل حلت شركات تكنولوجيا الاتصال التي تشغل وسائل التواصل الاجتماعي محل بعض الحكومات التي كانت تحتكر الاتصالات وتنتج خطابات تحتوي على عمليات تزييف وتلاعب ايديولوجي، وهل الذكاء الاصطناعي والخوارزميات التي تتحكم في التفاعلات عبر وسائل التواصل الاجتماعي وتشوهها هي الآليات الجديدة للهيمنة. أعتقد أن هذه التساؤلات تحتاج إلى بحث وتحقيق موضوعي من خلال ترسانة المفاهيم والأدوات البحثية التي توفرها الدراسات النقدية للخطاب. من هنا اهتم بعض الباحثين النقديين بتحليل الخطابات المتنافسة عبر وسائل التواصل الاجتماعي ودور الشركات العملاقة، التي تدير وسائل التواصل الاجتماعي في إنتاج أو تشويه الخطابات أو منعها.
وترتبط البدايات الأولى للاجتهادات، التي ظهرت في إطار الدراسات النقدية لخطابات وسائل التواصل الاجتماعي، بأبحاث تحليل الخطاب النقدي باستخدام تقنيات لغويات المدونة الحاسوبية (كوربس) التي ظهرت على يد كل من بول بيكر ومونتير، وبالأعمال المشتركة لفوداك وياجر وخسروفينكي، ثم محاولات الأخير تطوير أفكاره وطرح مقاربة منهجية خاصة به هي الدراسات النقدية لخطابات وسائل التواصل الاجتماعي CDS-SM. ويرى خسروفينكي أن جوهر القوة التواصلية التي يُفترض أنها تكمن في التحليل النصي لدراسات النقدية للخطاب للوسائط التقليدية (مثل الصحافة والإذاعة) هي أن المحتوى في الأغلب يتدفق في اتجاه واحد من عدد قليل من منتجي النخبة إلى جماهير المتلقين العاديين.
ويفترض هذا أولاً أن تدفق النصوص يكون خطيًا وأحادي الاتجاه من وسائل الإعلام (النخب) إلى المجتمع، وثانيًا أن هناك فصلًا واضحًا بين عمليات إنتاج واستهلاك النصوص الإعلامية، ويفترض ذلك السيطرة التفضيلية للنخب الرمزية على النصوص على البنية الكلية، ومن ثم السيطرة على المعاني الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
لكن في ضوء التغيرات التكنولوجية الأخيرة، وما وفرته للجمهور من مشاركات وتفاعلات، ومن ثم ظهور خطابات تؤثر من أسفل إلى أعلى، وانطلاقا من تغير أشكال وأنواع البيانات، يجادل عدد من العلماء والمفكرين الإعلاميين في مدى عمق واتساع التغييرات الاجتماعية، التي تشمل مجالات السياسة والصحافة والتعليم وغيرها، ومع ذلك هناك شكوك في تحول مجتمع الشبكة إلى يوتوبيا فاضلة تتساوى فيها حقوق الأفراد في الوصول إلى الشبكة والتأثير والتعبير الحر عن الآراء، فثمة قيود من الشركات العملاقة التي تمتلك وتدير شبكات التواصل الاجتماعي، كما أن التغيير الاجتماعي أو السياسي رهن بالتطور الاجتماعي والحقائق على الأرض ومتغيرات أخرى عديدة.
بكلام آخر أحدثت التقنيات سريعة الانتشار للويب التشاركي ثورة اجتماعية تواصلية حقيقية غيرت إلى الأبد الطريقة، وأصبح «الاتصال المستمر»، (الذي يقصد به الوصول الفوري والمستمر إلى الأخبار العالمية والاهتمامات الأخرى وجهات الاتصال وأنماط التعبير المختلفة) جزءًا من الحياة في معظم المجتمعات، ويتعامل المجال السيبراني مع العالم باعتباره عالمًا تفاعليًا متعدد الاتجاهات ومتعدد الوسائط، ويتميز المجال السيبراني أيضًا بالإنتاج المتواصل ومشاركة محتوى المعلومات مع عدد متزايد باستمرار من تشكيلات الخطاب من القاعدة إلى القمة ونشرها. لقد كسرت تقنيات وسائل التواصل الاجتماعي الاتجاه الأحادي لتدفق المحتوى من المنتجين إلى المستهلكين عبر ممارسات وسائل الإعلام (المغلقة) كما مكنت؛ على الأقل ظاهريًا، المستخدمين العاديين من امتلاك خيار المشاركة في إنتاج النص وتوزيعه. كما تميزت مساحة التواصل عبر وسائل التواصل الاجتماعي بإمكانية ثابتة لأداء إعلامي عادي بين الناس بعيدا عن النخبة، بكل ما يتضمنه ذلك من مساهمات جماهيرية ومشاركات وتأثيرات، أسهمت في ظهور ثقافة إلكترونية حديثة.
ومن منطلق الانتماء إلى الدراسات النقدية للخطاب يرى خسروفينكي أن معظم الفرضيات والمبادئ الأساسية للدراسات النقدية للخطاب لا تزال صالحة، لكنها تحتاج إلى مراجعات نظرية وممارسات بحثية جديدة وغير تقليدية، بحيث تكون قادرة على التعامل مع خطابات وسائل التواصل الاجتماعي، ويقول إن برنامج البحث الواسع للدراسات النقدية للخطاب CDS يمكن (ويجب) أن يدمج وسائل التواصل الاجتماعي بدقة نظرية ومنهجية، لأن المبادئ النظرية الأساسية للدراسات النقدية للخطاب CDS - مثل التوجه نحو المشكلة والتركيز على السمات اللغوية / الخطابية وما إلى ذلك - لا تزال ذات صلة بالمساحات الجديدة للممارسات الخطابية. فهناك قدر كبير من الممارسة الخطابية والتركيز الاتصالي على وسائل التواصل الاجتماعي الذي يحول الويب التشاركي إلى مساحات جديدة للسلطة والتأثير في المجتمع. وبالتالي، لا يزال النقد الديناميكي للسلطة ينطبق على الاتصالات في هذه المساحات الرقمية. كما أن هناك حاجة إلى تأطير اللغة المستخدمة في هذه المواقع من خلال الاعتماد على السياق الاجتماعي والسياسي للجمهور وشبكات الخطاب الموجودة، سواء في السياق المباشر عبر الإنترنت أو في السياق الاجتماعي والسياسي للمجتمع.. وتنظر الدراسات النقدية لخطابات وسائل التواصل الاجتماعي SM-CDS إلى تحليل الخطاب على أنه تحقيق في محتوى وممارسات صنع المعنى، أي الموارد السيميائية (القديمة والجديدة)، وكذلك أنماط صنع المعنى على مستويين هما: الإنتاج والاستهلاك. لأن المحتوى الخطابي الذي تم تحليله لا يمكن فصله بشكل أساسي عن الممارسات الرقمية للإنتاج والتوزيع والاستهلاك. بعبارة أخرى، يستدعي الترابط بين المحتوى الخطابي والممارسة نوعًا من المقاربة المنهجية التي تسجل وتشرح عمليات تكوين الخطاب والاستهلاك.. ويتضمن ذلك التحقيق في تأثير استراتيجيات التوزيع على القوة الخطابية والمحتوى، أي من يرى ماذا؟ في أي سياق؟.
وهناك من يري أن الفردية المتطرفة، والتلاعب الخوارزمي المشترك للأخبار والمعلومات، يمهدان الطريق لتطبيع التصور الشعبوي للتواصل العام والهوية الجماعية في المجالات السياسية وفي جميع المجالات الأخرى، كما أنه لا يمكن الاستغناء عن مفاهيم السلطة والخطاب. كذلك فإن الجوانب العاطفية مهمة للغاية للبحث في وسائل التواصل الاجتماعي. لأن الاعتراف بأن الجوانب العاطفية للتواصل كانت دائمًا جزءًا من التواصل البشري وأحد السمات المهمة في دراسات الإقناع والخطاب، والتي يجب أن نطمح إلى دراستها في إطار شرح التحول إلى ما بعد العقلانية والمداولة كخطوة للأمام في الفهم الغربي لنظام الحكم والتفاهم الديمقراطي.
حصاد ما سبق، سيزداد الاعتماد على الخطاب متعدد الوسائط وسيحقق مزيدا من الانتشار، حيث يضمن إن يكون التواصل أكثر جمالية، ومن ثم لن يكون من الأفضل تفسير الخطاب عن طريق تحليل اللغة وحدها، لذلك يجب أن يركز البحث على ما هي أنواع التدفقات التي يتم تعزيزها أو منعها في التكوينات التي تظهر الآن؟ وما هي أنواع القبول والمقاومة لهذه الخطابات الناشئة؟ وما أنواع الخطابات المتنافسة على منصات التواصل الاجتماعي المتشابكة، والتي غالبًا ما تغذي وسائل الإعلام التقليدية. وأخيرًا، ما مصالح النخبة التي يتم خدمتها في هذا التكوين الاجتماعي السياسي الجديد؟ وهل ستبقي النخبة كما هي، أي النخبة التي يخدم التراكم الرأسمالي مصالحها. لقد قيل إن أيديولوجية السوق تتغلغل الآن في كل الأشياء، وتدير من خلال الخطابات أعمالنا والتعليم ووقت الفراغ والحية المنزلية، ويبدو أن وسائل التواصل الاجتماعي تلعب دورًا رئيسيًا في هذه العملية.
إن هذه التساؤلات وغيرها تحتاج إلى مفاهيم وأدوات ووسائل جديدة لتحليل خطابات عالم ما بعد كوفيد - 19، والنظام الاتصالي والإعلامي الجديد، الذي تنمو في ظله بقوة وسائل التواصل الاجتماعي وتقنيات الذكاء الاصطناعي، وتتعدد وتتنوع فيه الخطابات المتنافسة سواء على المستوى المحلي أو الدولي، بحيث لم يعد التحليل النقدي التقليدي بمفاهيم وأدواته التقليدية قادرا على الوفاء بمتطلبات المرحلة، والتي تتسم بالتعقيد الشديد والاضطراب، ولا يعني ذلك التخلي عن النظرة النقدية وإنما تعزيزها بمفاهيم وأدوات جديدة، وهي بدون شك مهام وتحديات صعبة، تتطلب جهودا عديد من المنتمين للدراسات النقدية.