يتكرّر ذكر أسانيد الأصول الخطّيّة لرسائل وأجوبة أئمة الدعوة، كقول الناسخ: (كتبه محمد بن عبد الوهاب ومن خطّ من نقله من خطّ الشيخ محمد نقلت، وذلك آخر سنة 1343هـ)[مجموعة الرسائل والمسائل النجدية (1/ 12)]، وأصله بخطّ قاضي بلدة أشيقر، الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن عامر، قال: (كتبه محمد بن عبد الوهاب ومن خطّه نقلت)[مكتبة شقراء العامة]، ووجدت بعض المنقول بخطّ الشيخ حمد بن عبد العزيز العوسجي، قاضي بلدان سدير، ثم المحمل والشعيب، قال: (قابلته على كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب قدّس الله روحه، فإذا هي كما في الأصل سواء)، ونقله من خطّ الشيخ حمد؛ ابنه الشيخ سعد، ونقله من خطّ سعد؛ الشيخ عبد الله الربيعي سنة 1346هـ [مكتبة الملك سلمان، برقم (3413)، ص26].
وكقول الربيعي بعد نسخ أجوبة الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب (ت:1242هـ): (نقلته من خط الشيخ عبد الله بن سعد بن عوين سنة 1351هـ)، وابن عوين من أهل بلدة حوطة بني تميم، وذكر أنّه نقله من خط الشيخ إبراهيم بن قريش سنة1340هـ، وإبراهيم من أهل بلدة الحلوة، وذكر أنّه نقله في جُمادى الأولى سنة 1262هـ [مكتبة الرياض السعودية 679/ 86، ص31، ويقصد ما في الدرر السنية (5/ 318-348)]، وكقول الربيعي أيضاً بعد رسالة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ (ت:1293هـ): (نقلته من خطّ الشيخ سليمان بن حمدان سنة 1345هـ)، وسليمان من أهل بلدة المجمعة، نسخها سنة 1342هـ من خطّ الشيخ أحمد بن عبيد، وابن عبيد نسخها بإملاء الشيخ عبد اللطيف في محرم سنة 1291هـ، وكقول الربيعي أيضاً بعد رسالة الشيخ عبد الرحمن بن عدوان أحد علماء الرياض (ت1286هـ): (من خط الشيخ سليمان بن حمدان)[مجموعة الرسائل (5/ 563)، وأصلهما الخطّي في مكتبة الملك سلمان برقم (3413)، ص76].
ويُلحظ أنّ رسائل علماء الدرعية الأولى، وعلماء الرياض زمن الشيخين عبد الرحمن بن حسن، وابنه عبد اللطيف؛ نُسخت في الرياض بعد سنة 1340هـ، من خطوط علماء خارج الرياض، وهذا يدلّ على خلوّ الرياض منها ووجود الحاجة إليها، ويظهر لمتتبّع رسائل الشيخ محمد بن عبد اللطيف (ت:1367هـ)؛ أنّه أدرك أهمية الجمع، وسعى فيه، فقد كتب سنة 1332هـ رسالةً إلى قاضي بلدة أشيقر الشيخ عبد العزيز بن عامر، وقال: (مطلوبنا أحسن الله عملك ترسل لنا جميع ما عند جنابك ... شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من العلماء النجديين المتقدمين والمتأخرين ننظر فيهن، والذي عندنا نرسلها لجنابك، والذي مهيب عندنا نكتبه ونردّه، وأنت بارك الله في حياتك الذي بدأتنا بذلك، وعرضت الجانب) [صورة من الرسالة أفادني بها الأستاذ عبد الله البسيمي]، وكتب إلى الشيخ إبراهيم بن صالح بن عيسى سنة 1335هـ المقيم في بلدة أشيقر أيضاً، وطلب منه نسخ بعض الرسائل[(تاريخ ابن عيسى) (1/ 171)، دراسة د. أحمد البسام]، وطلب من الشيخ عبد الله بن حمد الدوسري إعارة بعضها، وكان الشيخ عبد الله في شقراء، وانتقل منها، وكتب وثيقة قال فيها: (الذي عطينا الشيخ محمد بن عبد اللطيف لنا من المسائل ينسخها ويردّها علينا)، وذكر منها ما نسخه الشيخ محمد أبو عباة من أهل بلدة شقراء، وذكر غيرها، وقال: (وسط محفظة لنا أمّ أزرّة، الجميع عارية وينسخها إن شاء الله تعالى)[صورة من الوثيقة أفادني بها د. عبد الله بن زيد المسلّم التميمي]، وكتب الشيخ محمد بن عبد اللطيف وهو في عسير سنة1339هـ رسالةً إلى الشيخ محمد بن عبد الخالق الحفظي التهامي الشافعي، وقال: (إن رأيت شيئاً من رسائل أهل الدرعية فأتحفنا به ننتفع بها مدّة مقامنا، وترجع إليكم)، وكتب في آخر سنة 1339هـ رسالةً إلى الشيخ أحمد بن محمد الحفظي، وقال: (مرامنا المكاتبات والمسائل التي من آل الشيخ ومن حمد بن ناصر بن معمر ومن سعيد بن حجي لأهاليكم، والمجاوبات، مقصودنا ننشرها، وينتفعون بها المسلمون، ويدعون لأهلها، وهي على وقفيّتها، وأنت فاهم أنّ أفرح ما لأمواتكم أننا ننشرها، ولا قصدنا إلا أنّ أهلكم يُدعى لهم، وينتشر ذكرهم وصيتهم، ويجري لهم الثواب)[باختصار، أحمد الحفظي (مراسلات آل الحفظي)، ص98، 102].
ورحل الشيخ محمد بن عبد اللطيف إلى بلدة بريدة بعد سنة 1340هـ [يُنظر ترجمته، تأليف: الشيخ عبد المحسن آل الشيخ، ص37]، واطّلع على ما نسخه وتملّكه الشيخ محمد بن عبد الله بن سليم، والشيخ محمد بن عمر بن سليم أثناء رحلتهما العلمية الطويلة إلى الرياض، واستنسخ منها، ولهذا جاء في مجموعة الرسائل المطبوعة ذكرُ أصول بخطوط الشيخ عبد الله الرشيد الفرج، والشيخ عبد الرحمن التويجري، وهما من علماء بريدة، ومن تلاميذ آل سليم [مجموعة الرسائل (5/ 480، 541)]، وصرّحا في بعضها بالنقل من خطوط آل سليم [مكتبة الرياض برقم 658/ 86، الورقة الأخيرة، و654/ 86، ص9، ويُنظر: مقال للكاتب (أوراق ابن صعب سنة 1345هـ من بريدة إلى الرياض والقاهرة)، جريدة الجزيرة، العدد 17663]، واستنسخ الشيخ محمد سنة 1347هـ تقريباً رسائل من مكتبة عارف حكمت في المدينة [مقال للكاتب: (إسهام المخطوط في ضبط نصوص الإمام محمد بن عبد الوهاب)، جريدة الجزيرة، العدد 17777].
فظهر ممّا ذكرته أنّ الشيخ محمد بن عبد اللطيف جدّ واجتهد في عمليّة الجمع، وأنّه كان يسأل علماء البلدان عن الرسائل والأجوبة، ويستنسخها، أو يستعيرها لينسخها ثمّ يردّها، ويطلب نقل وقفيّتها إن كانت موقوفة.
ولقد أثمرت تلك الجهود الحثيثة، فإنّ كراريس أجوبة ورسائل أئمة الدعوة توافدت إلى الشيخ محمد وإلى الرياض تباعاً، قال الربيعي بعد نقله بعضها: (جواب مسائل وردت على شيخنا)، وقال: (من نسخةٍ جاء بها في الرياض بعض الإخوان سنة 1345هـ) [مكتبة الملك سلمان، برقم 3422، ص23، 27]، وتكوّنت بالكراريس مجاميع ضخمة.
إنّ راصد الحالة الاقتصادية آنذاك ليُدرك أنّ الكلفة المالية للكراريس والمجاميع تفوق قُدرة الشيخ محمد بل وأفراد العلماء، وإذا توسّع في الرّصد فسيُدرك أنّ الملك عبد العزيز (ت:1373هـ) كان يُمدّ عمليّة الجمع بالمال، ودليلي: تقييداتٌ تُفيد وقفيّته على بعض الأصول الخطّيّة [يُنظر مثلاً: مكتبة الرياض برقم: 676/ 86، و568/ 86]، وطباعته الأصول بعد جمعها، واهتمامه بعودتها إلى الرياض بعد الطباعة [رسالة الشيخ محمد بن عبد اللطيف إلى سفير الملك عبد العزيز بمصر، الشيخ فوزان السابق سنة 1352هـ، عبد الرحمن الشقير (طباعة الكتب ووقفها عند الملك عبد العزيز) ص97]، ومن أدلّتي أيضاً: استصحاب إنفاق الملك المال الكثير في طباعة الكتب ووقفها في تلك الفترة [المرجع السابق ص38-86].
إنّ قارئ مجموعة الرسائل والدرر السنيّة يوقن أنّها ليست كغيرها من كتب الفتاوى والأجوبة، لأنّ جُلّ الأسئلة الموجّهة إلى علماء الدرعية الأولى صدرت من فقهاء وقُضاة البلدان المتباعدة بحسب تتبّع تراجم السُّؤّال، وهذا يعني علوّ قيمتها العلمية مقارنةً بكتب الفتاوى التي يُجاب فيها عن أسئلة العامّة، وفي كلٍّ خير.
وأفاد التحقّق من كون جُلّهم فقهاء وقُضاة قوّةَ الاتّصال بين المفتين وقُضاة البلدان المتباعدة، وبين رئاسة الإفتاء والقضاء في مركز الدولة، وهذا دليل على انتظام الفتوى والقضاء. ومن مزايا رسائل وأجوبة أئمة الدعوة ـ أيضاً ـ أنّها تضمّنت كلامهم في رأس العلم، وهو توحيد الله تعالى في العبادة، وكشف شبهات المُشككين فيه، والردّ على المخالفين.
وأحسب أنّ ما ذكرته من المزايا وغيره؛ هو الذي بعثَ همّة الشيخ محمد بن عبد اللطيف لجمع المتفرّق، وبعثَ همم علماء البلدان، وحرّك أقلامهم، وهو الذي جعل الملك الصالح عبد العزيز يُمدّ الشيخ محمد بالمال على ضعف في موارد جلالته الماليّة آنذاك، ودفعه أيضاً إلى طباعة الرسائل والأجوبة بعد إشارة الشيخ محمد بن عبد اللطيف له بذلك، وجعل المطبوعَ وقفاً لله تعالى على طلبة العلم والعلماء.
بدأت طباعة مجموعة الرسائل سنة 1344هـ، وانتهت سنة 1349هـ، وجاءت في أربعة أجزاء كبيرة، على نسق المجاميع الضّخمة التي أُلّف بين كراريسها في الرياض، ثمّ ظهرت حاجةٌ علميّة جديدة لم تكن موجودة قبلُ، قال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم في مقدمة الدرر السنية: (اجتهد العلماء في جمع كلام أئمة الدّعوة إلا أنّها غير مرتّبة، فصار الطالب للمسألة لا يجدها إلا بعد تعب وعناء، وفي هذا مشقّة، وربما لا يجدها، فأمرني من تجب طاعته عليّ ـ يقصد الشيخ محمد بن عبد اللطيف ـ أن أجمعها وأرتّبها حسب الطّاقة، وأعانني شيخنا الحبر محمد بن الشيخ إبراهيم، وحرّر وهذّب)أهـ [باختصار، ط(1)، ص11]، وبدأت طباعة الدرر السنية سنة 1352هـ، وانتهت سنة 1356هـ، على نفقة الملك عبد العزيز، وأوقف المطبوع لله تعالى، رحمه الله، ورفع منزلته، وحشره في زُمرة الصّدّيقين، ورحم الله الشيخ محمد بن عبد اللطيف، وكل من ذكرناهم، وجعلهم في دار البقاء منعّمين، {إنّا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدّموا وآثارهم وكلّ شيء أحصيناه في إمام مبين}، وبارك الله في عقبهم، وفتح عليهم المزيد من أبواب فضله وإحسانه.
** **
- د. عبدالله بن سعد أباحسين