سهوب بغدادي
«هم البنات للممات» مقولة شعبية شائعة في مجتمعاتنا لوقت غير بعيد، حيث يمكن تتبع هذا الفكر ضمن إطار زمني بداية من آيات القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ}، فكان العبء على الأنثى ابتداءً من ولادتها وتعاملها وتقبلها الفروقات في التعاملات اليومية مع إخوتها الذكور، من ثم تحمل الضغوطات المجتمعية عند تأخر الزواج، وفي حال تزوجت تكبد عناء الضغط الخارجي لإنجاب ذكر يحمل اسم الزوج، وهكذا دواليك، إلى أن تصل المرأة إلى حالة من الإنكار أو التمرد على الذات والمحيط، وفي يومنا الحالي، مع فورة الإصلاحات المجتمعية خاصةً في المملكة العربية السعودية، نجد أن هذا الفكر الذي كان يعد موروثاً ومن المسلمات، بدأ في التلاشي شيئاً فشيئاً، يجدر بي التنويه على أنني لا أتبنى الموجة النسوية، فليست النسوية التي نراها اليوم بنسوية بمعناها الحق بالاستناد على الحقائق التاريخية، فلقد ذكرت في مقال سابق لي في إحدى السنوات أنني لا أؤمن بالمساواة بين الرجل والمرأة! لأن المساواة في كل الأحوال بين شخص وآخر ستكون غير منصفة، بل أؤمن بالعدل. فالعدل المقياس في التعاملات والفروقات والأحوال وما إلى ذلك. إن ما دفعني لكتابة المقال اليوم كان من تلمسي أحوال بعض النساء السعوديات مؤخراً، ففي يوم عادي ذهبت لشراء بعض المستلزمات فوجدت فعالية لمركز العمليات الأمنية الموحدة 911، وفي وسط الزحام لمحت امرأة اكتست بالهيبة والوقار وملامح القوة فكانت تلبس البدلة العسكرية السوداء، لقد لمحتها من الدور العلوي، فلم أتمالك نفسي وذهبت لألقي عليها التحية وأعبر لها عن فخري واعتزازي بها، فكان المشهد طريفاً وملهماً في ذات الوقت بدأت بالتحية العسكرية فبادلتني إياها وضحكنا سوياً ثم سألتها عن دافعها الذي جعلها في هذا المكان اليوم، فقالت تخرجت من تخصص الحاسب الآلي وكانت تأتيني عدد من الفرص الوظيفية ولكنها لم تكن ملائمة لتطلعاتي، وكان والدي -رحمه الله وطيب ثراه- يقول لي في كل مرة لا أجد فيها الوظيفة المناسبة بأنني «أصلح أن أكون عسكرية» فتوفى والدي وبعدها بفترة فتح مجال التسجيل على الوظائف العسكرية للعنصر النسائي في المملكة وها أنا هنا اليوم. كانت بنت مبارك أو «هياء بنت مبارك القحطاني» تحكي لي القصة بطريقة عادية ولكنني تأثرت كثيراً لأن والدها رحمه الله كان سيشعر بالفخر إذا شهدا شهدته، فللوالد نظرة لا تخيب بإذن الله ثم بدعمه، وفي ذات الزمان والمكان توجهت إلى محل بيع آلات الموسيقى فقط للتجربة فلقد اعتدت أن أذهب هناك لتجربة أحدث إصدارت الآلات كهواية وطقوس لكسر ملل التسوق، كنت أتحدث مع فتاة في مقتبل العمر تدعى «جوري» ووالدتها عن المعاهد الموسيقية وأهمية دعمها وتشجيعها ابنتها وشكرتها على تفهمها للاختلافات الحاصلة في الجيل الجديد ورغباتهم، فقطعت أنغام الموسيقى حديثنا دون شعور، وكانت فتاة أخرى في ذات العمر أتت مع والدها ووالدتها، وعندما انتهت من المعزوفة صفق لها والدها، فتمعنت في تلك الملامح فكانت «العازفة دانة» لقد عرفتها قبل عام أو ما يزيد في معهد الموسيقى فكانت متميزة وموهوبة فالأمر الذي جعلني أتذكر موهبتها تحديداً هو دعم والدها لها، فكان يصور عزفها خلال الفعالية المقامة للطلاب وعند انتهائها يقوم باحتضانها والتصفيق لها، مع تكرر المشهد في محل الموسيقى وصلني ذات الشعور الذي مررت به قبل عام على الرغم من عدم معرفتي ملامح الفتاة أو والدها نظراً لارتدائهما الكمامة العام الماضي خلال الجائحة واليوم كذلك، الجميل أن دانة في آخر سنة من المدرسة وتريد أن تصبح طبيبة أسنان، فما أجمل أن تكون ابنتك عازفة وطبيبة وأكثر من ذلك؟ والأجمل أنك السبب خلف ذلك التميز. تركت المكان وأنا سعيدة مما رأيت لأشاهد فيلم يحكي عن قصة لاعبة التنس العالمية «سيرينا وليامز» وأختها «فينوس» لا أريد أن أحرق القصة على من لم يشاهده ولكن كان والدهما الداعم الأول والسبب الرئيس في صعودهما للعالمية من خلال رؤيته وتوجهه وخطته التي وضعها لأطفاله وخاصة لسيرينا وفينوس، فكانت مسألة وقت فقط وجهد مقنن، بعد الفيلم ترسخت لدي فكرة دورنا كمربين في كل كلمة وبسمة وحركة فنحن مسؤولون عن أرواح تحملنا معها حتى بعد رحيلنا، ونختم بما جاء في خطبة الوداع عندما قال الرسول صلى الله عليه وسلم (فاستوصوا بالنساء خيراً).