اطلعت على مقال نُشر في صحيفة الجزيرة الثقافية يوم الجمعة/السبت 17-18 صفر 1443هـ العدد: (17811) تحت عنوان (عرام السلمي.. ابن الحجاز العارف بمواضعه وسكانه) للكاتب د.عبدالرزاق الصاعدي، ويبدو لي أن د.الصاعدي كتب مقاله من منظور شخصي وليس عملياً؛ لأنه متخصص في اللغة ويعي ما ورد عن عَرَّام في معاجمها، ولابد أنه ملم بالغموض والاضطراب الذي يكتنف شخصيته وحياته ونشأته ومروياته؛ أمَّا البلدان فالذي يظهر لي أنه ليس له اطلاع واسع في معاجمها، وقد فات الصَّاعِدي أن أبا إسحاق الحربي في «المناسك» نقل عن أبي الأشعث الكندي واعتمد عليه، وأن البكري في «معجم ما استعجم» نقل عن السَّكُوني واعتمد عليه، وأن الحازمي في «الأماكن» نقل عن أبي الأشعث الكندي واعتمد عليه، وأن ياقوت الحموي في «معجم البلدان» نقل عن أبي الأشعث الكندي وذكره في مقدمته، وأن الفيروزآبادي في «المغانم المطابة» أكثر النقل عن ياقوت، وأن السمهودي في «وفاء الوفا» لخص جُلّ ما في كتاب الفيروزآبادي؛ أمَّا عرَّام السُّلَمِي فليس له مؤلَّف معروف لا في اللغة ولا في البلدان؛ إلا ما نقل عنه بالرواية في معاجمها.
وعرّف الصّاعِدي بعَرّامٍ وأورد ما ذكر عنه في المصادر، ثم نقل بعض كلام العلماء مجتزأ وغير مكتمل، فمثلًا أورد قول الميمني محقق المخطوط الذي نصه: «وممّا لا أكاد أقضي منه العَجَب أنّ أحدًا من أصحاب التراجم لم يذكر عَرّامًا»، فعلق الصاعدي عليه بقوله: «يريد: أنّ أحدًا لم يذكره بترجمة صريحة، مع أنّه عُمدةُ البلدانيين في الحجاز وتهامة، ومن رواة اللغة الثقات المتقدمين»!! وهذا قول غريب منه علق عليه ظنًا دون تثبّت، والميمني - رحمه الله - كان واضحًا وصريحًا عندما قال: «وكأن صاحبنا - أي عَرَّامًا - لشهرته بخُرَاسَان لم يكن يحتاج إلى اسم أو نسب»!! وعندما قال - أيضًا في النص الذي استشهد به الصاعدي مجتزأ: «وممَّا لا أكاد أقضي منه العجب أن أحدًا من أصحاب التراجم لم يذكر عرَّامًا، ولعل ذلك من أجل أنَّه لا مؤلّف له، وكتابنا هذا - أي أسماء جبال تهامة - أيضًا مما أملاه على أبي الأشعث الكندي فنسبوه بعدُ إلى السَكوني، وربما يكون عرَّام أُمّيًّا، والله أعلم. وعندما قال: وهذا النَّديم يذكر جملة صالحة من الأعراب الذين أُخذت عنهم اللغة، ولكنَّه ينسى صاحبنا - أي عرامًا»(1).
ثم تساءل الصاعدي: فأين وُلد عرّامٌ وأين نشأ؟ ثم ذكر رأي علامة الحجاز عاتق بن غيث البلادي - رحمه الله - عن مولد عرّام ونشأته، فنقده نقدًا غريبًا غير مبرر، ثم ذكر أقوالًا نسبها للبلادي، واستطرد بحديث منمق عن (عَرَّام) كعادة أهل اللغة في الثاء والتلميع!! والبلادي - رحمه الله - نبَّه على منهج عَرَّام وضَعَّف أقواله في مرات عديدة في «مجلة العرب» و»معجم معالم الحجاز»(2) وغيرها، والبلادي عرفناه محقّقًا ومُدقّقًا وكان عالمًا بمواضع الحجاز وسكانها، وسار على قدميه لتحديد المواضع، وتتبع ما ذكره العلماء وشعراء العرب، وأقواله في عَرَّام بن الأَصْبَغ السُّلَمِي ليست مستغربة، وليس له هدفٌ في تضعيف روايته؛ إلا تصحيح ما رآه من أخطاء كثيرة بعد بحث طويل وتقصٍ لأماكن الحجاز ومواضعه وسُكَّانه، وإذا نقل علَّامة الحجاز عن عَرَّام بعض النصوص التي أشارت إلى سُكنى الأنصار في الديار كنقلٍ مباشرٍ أو بواسطة، دون أن يُنكر عليه شيئًا منها، أو يعلّق بما يفيد الشكّ؛ فهذا ليس إثباتًا منه على أن الأنصار ما زالوا في تلك الديار، فالبلادي - رحمه الله - نقلها للقارئ الحصيف الذي يُميز بين النصوص ومرادها حتى لا يزيغ بصره عن الحق والصواب فيركبه الوهم والظن، والديار التي ذكرها عَرَّام في روايته لأبي الأشعث الكندي ومن كان يسكنها في زمنه، ذكرها علّامة الحجاز وأشار إلى سكَّانها دون خلط ووهم، وفصَّل فيها لكل ذي لب!! علمًا أن ما أملاه عَرَّام على أبي الأشعث الكندي ونُقِل عنه، قد يكون سابقًا للأحداث والتغيرات الديموغرافية للتركيبات السُّكَّانية التي طرأت على الحجاز وما بين الحرمين الشريفين بعد بداية القرن الثالث الهجري، والتي ذكرها كثير من المؤرخين المعتبرين الثقات، وأشار إليها بعض الجغرافيين، أمثال: البلخي (ت:322هـ)، والهَمْداني (ت: بعد360هـ)، والإصطخري رائد الجغرافيين، وهو من علماء القرن الرابع، وابن حوقل المتوفى سنة 367هـ، وأبو الحسن الماوردي (ت:450هـ)، الأفطسي، (توفي بعد 515هـ)، وغيرهم(3).
ثم أورد الصاعدي في مقاله بعض أقوال العلماء وعلق عليها، وفسَّرها على غير مرادها!! وحقيقة الأمر أن أقوال العلماء واضحة فيما ورد عن عرامٍ من غموض واضطراب في مولده ونشأته ورواياته، ولو أن الصَّاعِدي سار في بحثه على بصيرة وهدى لتبين له أن الأقوال في عَرَّام متضاربة، والمرويات عنه متفاوتة، وأن القطع في أمره ومروياته مغالطة، والتساهل في بيانه مكابرة!!
فمَنْ عرّامٌ هذا؟ وأين نشأته وما هي سيرته؟ وهل له مؤلَّف معروف؟(4)
أولًا: التعريف بـ(عَرَّام):
اسمه: (عَرَّام بن الأَصْبَغ السُّلَمِي)، نسبة إلى سُلَيْم بن مَنْصُور، قبيلة من قَيْس عَيْلان، وليس له ترجمة، ولا يعرف تاريخ مولده ولا سنة وفاته تحديدًا، أُشتهر وعُرف بخُراسان.
ثانيًا: نشأته:
لا يعرف شيئًا عن عَرَّام في أول حياته ونشأته؛ غير أنه بلا شك من خلال ما ورد عنه في معاجم اللغة، ومعاجم البلدان، يتبيّن للباحث أنه عاش بداية حياته في ديار بني سُلَيْم، وترعرع أول شبابه في أرض الحجاز قبل انتقاله إلى الحواضر ومن ثم إلى خُرَاسَان في سنة 217هـ وشهرته بها.
ثالثًا: سيرته:
- ذُكِرَ (عَرَّام) في عدة من المعاجم اللغويِّة، وقد جاء ذكره في كتاب «العين» للخليل بن أحمد الفراهيدي (ت170هـ أو بعدها بقليل) في (52) موضعًا صَرَّح باسمه ونسبه في نصٍ واحدٍ عنه ورد بـ(عَرَّام السُّلَمِي)(5)، وذُكِرَ في كتاب «تهذيب اللغة» لأبي منصور الأزهري (ت370هـ) في (32) موضعًا، وهو في كلا المعجمين يرد ذكره مع طائفة من النصوص اللغوية تروى عنه أو تسمع منه، أو تُنسب إليه. وكتاب «العين» مختلف فيه بين كثير من الباحثين والعلماء، وذِكْر عَرَّام في كتاب «العين» في زمن (الخليل) وذكره في زمن أبي تراب لا يتوافق، إذ لا يمكن أن يكون (الخليل) المتوفي سنة (170هـ أو بعدها بقليل) قد لقي (عرامًا) وأخذ عنه وأنه كان رجلًا معتبرًا في عمره وعلمه، حتى جاز الأخذ عنه، وهو لا يتوافق مع سماع أبي تراب منه، وأبو تراب توفي في حدود سنة (275هـ)، وأيضًا لا يتوافق مع كون (عَرَّامًا) أعرابيًا قدم نيسابور ويمتهن التأديب في كنف (آل طاهر) بعد سنة (217هـ)؛ ولكن قد يُقَال إن كتاب العين أُدخلت به بعض النصوص حشوًا، وقد وردت عبارة موهمة مفادها أن عَرَّامًا قد سمع من أبي ذؤيب المتوفى سنة 26هـ، وروى عنه(6)!!. وهذا بالنظر إلى الزمن المذكور بعيد جدًا مما يثير التساؤلات!!.
- وذكره الحربي (ت:285هـ)، في نصٍ عن نجدٍ وتهامة حيث قال: فزعم عبدالرحمن بن محمد بن عبد الملك الكندي قال: أملى عَلَيّ عَرَّام بن الأصبغ السلمي: إن أول جبال تهامة رضوى...إلخ(7).
- وذكره ثعلب (ت:291هـ) في «ديوان الخنساء»، عند الحديث عن المواقع الجغرافية التي ترد في أشعارها، ولم تُذْكَر أدنى معلومة عنه؛ غير ما ورد من عبارة موهمة جاءت في «الديوان»، حيث قال عَرَّام: «إنَّما هو «ذات أخباب» وكذا قال ابن أخت الخنساء؛ وهو وادٍ يصبُّ في ذي الخَدْمَة»، والخنساء هي: الشاعرة تماضر بنت عَمْرو السُلَمية (ت:24هـ). وهذا - أيضًا - بالنظر إلى الزمن المذكور بعيد جدًا مما يثير التساؤلات!!(8)
- وذكره النَّديم (ت:380هـ) من خطوط العلماء، ولم يورد له ترجمة أو أي تفصيل عنه(9).
- وذكره البكري (ت: 487هـ) في مقدمة معجمه عند نقله عن السَّكُوني في «جِبَال تِهَامَة ومحالَّها»، في ثلاثة مواضع وأشار في بعضها إلى أن عَرَّامًا أملى «أسماء جبال تهامة وسكّانها، وما فيها من القرى والمياه، وما تنبت من الأشجار» على أبي الأشعث الكندي الذي أملاه هو بدوره على السَّكُوني، الذي اعتمد عليه البكري في كثير من المواضع وأكثر عنه(10).
- وذكره ياقوت الحموي (ت:626هـ) في «معجم الأدباء» وذكر وجوده في الحواضر، إذ ذكر في ترجمة (أبي سعيد الضرير) خبرًا مفاده أن (عبد الله بن طاهر) لما قلده الخليفة العباسي المأمون (ت:218هـ) ولاية خراسان سنة 217هـ، قدم نيسابور عاصمة الإقليم، وأَقَدَم معه جماعة من فُرْسَان طَرْسُوس، ومَلَطْية، وجماعةً من أدباء الأعراب، منهم: (عَرَّام)، وقال: وتأدبوا بأولئك الأَعْرَاب، وبهم تخرَّج (أبو سَعِيد الضَّرِير)، فَصَار بهم إمامًا في الأدب. وذكر ياقوت (عَرَّام) عرضًا في «معجمه» ولم ينسبه، ولم يترجم له من ضمن الأدباء؛ علمًا أن ياقوتًا قد اعتمد على (عَرَّام السُّلَمِي) في كثير من أقواله في عدة مواضع في «معجم البلدان» ويذكره مباشرة ويُثْني عليه أحيانًا، على الرغم من أنه ناقل عن أبي الأشعث الكندي صاحب كتاب «أسماء جبال تهامة» كما سمَّاه في مقدمته، من طبقة أهل الأدب الذين اقتدى بهم، ونقل عنهم(11).
- وذكره القفطي (ت:646هـ)، عرضًا ضمن جماعة من الأعراب الذين دخلوا الحاضرة، ولم يُشر إلى أدنى معلومة عنه(12).
وإليكم بعض أقوال العلماء المحقّقين التي لم يتطرق لبعضها د.عبدالرزاق:
- قال الميمني: «وكأن صاحبنا - أي عَرَّامًا - لشهرته بخُرَاسَان لم يكن يحتاج إلى اسم أو نسب»!! وقال - أيضًا: «وممَّا لا أكاد أقضي منه العجب أن أحدًا من أصحاب التراجم لم يذكر عرَّامًا، ولعل ذلك من أجل أنَّه لا مؤلّف له، وكتابنا هذا - أي أسماء جبال تهامة - أيضًا مما أملاه على أبي الأشعث الكندي فنسبوه بعدُ إلى السَكوني، وربما يكون عرَّام أُمّيًّا والله أعلم، ثم قال: وهذا النَّديم يذكر جملة صالحة من الأعراب الذين أُخذت عنهم اللغة، ولكنَّه ينسى صاحبنا - أي عرامًا»(13).
- قال شيخ المحققين عبد السلام هارون: ولم نعثر لعرام على ترجمة، إلا ما ذكره القفطي عرضًا عند سرده لأسماء الأعراب الذين دخلوا الحاضرة. وقال - أيضًا: ويبدو أنه كان أحد أعراب بني سُلَيم ممن كانوا يطوفون بالبلدان ويتعرفون مسالكها فيكتسبون بذلك خبرة صادقة(14).
- قال محمد صالح شناوي: «ولم نعثر لعرام على ترجمة، إلا ما ذكره ابن النديم عرضًا عند سرده لأسماء الأعراب الذين دخلوا الحاضرة، فذكره قرينًا لأبي الهيثم الأعرابي، وأبي المجيب الربعي، وأبي الجراح العقيلي، وقد ذكره باسمه كاملًا: (عرام بن الأصبغ السلمي)»(15). قلت: هو قول عبد السلام السابق غير أن الشناوي أفاد أن الذي ذكره عرضًا ابن النديم، وقد أخطأ بقوله: عَرَّام بن الأَصْبَغ السُّلَمِي من علماء القرن الرابع!! والأقرب: أنه من علماء القرن الثالث الهجري.
- قال الشلقاني: «عرام بن الأصبغ السلمي هو أحد الأعراب الذين استقدمهم عبدالله بن طاهر إلى نيسابور»، وقال عن الرواة: فكان من الأعراب الذين عرف عنهم القليل (عَرَّام بن أصبغ السلمي)، وكاد البحث لا يعطيه من التعريف إلا بما وقع إلينا من إيجاز أشار فيه ياقوت إلى أنه من الأعراب الذين استقدمهم عبدالله بن طاهر إلى نيسابور، ولم يذكر القفطي عنه أكثر من ذلك»(16).
- وقال السامرائي: «وعَرَّام بن الأَصْبَغ السُّلَمي صاحب كتاب «أسماء جبال تهامة» من أعراب خراسان، وكان قد ذهب إليها مع عبد الله بن طاهر سنة 217هـ»(17).
- ويذكر كراتشكوفسكي الروسي المستعرب في كتابه: «تاريخ الأدب الجغرافي عند العَرَب»: «أن من بين العلماء اللغويين شخصية طريفة لأعرابي أُمي يُدعى عَرَّام بن الأصبغ، وهو لمَّا أبصر إقبال الناس على معرفة الأماكن وجغرافيتها أملى في سن الشيخوخة، (بعد عام 231هـ/845م)، كتاب «أسماء جبال تهامة ومكانها» معتمدًا في ذلك على معرفته الجيدة بمواضع جزيرة العَرَب، وقد نال مصنفه انتشارًا وصيتًا واسعين، ورواه علماء مختلفون من بينهم السيرافي المعروف (ت 368هـ/ 979م)(18).
فأين د.عبدالرزاق الصاعدي عن هذه الأقوال الصريحة الواضحة؟!!
رابعًا: كتاب «أسماء جبال تهامة وسكانها:
يعد كتاب «أسماء جبال تهامة وسكانها وما فيها من القرى وما ينبت عليها من الأشجار وما فيها من المياه» أحد كتب البلدانيات القديمة التي تناولت جغرافية تهامة الوسطى من سراة الحجاز، وليس له إلا مخطوطة وحيدة نادرة ونسخة يتيمة مُصَحَّفة ومُحَرَّفة للغاية حصل عليها الميمني بالخزانة السعيدية في حيدر آباد من ضمن 27 رسالة في الأحاديث والرجال، وقال عنها: «آية في التصحيف والتحريف»، وذكر أن رقم كتاب عرَّام فيها 16 فيما بين (ص151- 159)، وقال الميمني: وكتابنا هذا - أي «أسماء جبال تهامة» - أملاه - أي عَرَّامٌ - على أبي الأَشْعَث الكِنْدي، فنسبوه بعدُ إلى السَّكُوني، وربما يكون عَرَّامٌ أُميًا والله أعلم، ثم قال: فما لنا لا نترك إذن عزوه إلى أحد الرجلين ابن أبي سَعْد أو السَكوني، ونُلزقه بمُمليه وهو عَرَّام؟ الذي لا محيد عنه، وأفاد الميمني أنه نقَّب موضعًا موضعًا وأفاد من «معجم ما استعجم» لأبي عُبَيْد البَكْرِي، و»مُعْجم البُلْدَان» ليَاقُوت الحَمَوي. ثم قال: كما أن روايتنا عن ابن أبي سعد الوَرَّاق، ورواية ياقوت أوفقهما بروايتنا، وذكر أن الرجلين انتشلا جُلَّ ما في كتاب عَرَّام، ثم ذكر بعد مقابلة الروايتين أن نسخ الكتاب كانت مختلفة جِدَّ اختلاف منذ زمن قديم، ثم أفاد بأن ذلك الاختلاف المتوارث إلى اختلافات الورَّاقين، وتصحيفات النُّسَّاخ الحادثة، أحدثت تضاربًا في الأقوال والمذاهب فاحشًا، وتشتتًا في تسمية الأماكن والبقاع وغيرها، وأن ضبطها ووصفها وتحديدها غير هَيِّن. وقال الميمني - أيضًا: «ولا أرى العناية برفعه الآن ونحن في القرن الرابع عشر إلا نوعًا من الخبل وضربًا في حديد بارد، فتركته على غَرة بعد التنبه عليه ولَفْت الأنظار إليه، هذا وترى عند البكري في رسم بُحرة ص140 كلامًا عنه لا أثر له في هذه النسخة»(19).
وقال عبدالسلام هارون: «إن النسخة التي تأدت إلينا من كتاب (عَرَّام) عريقة في التصحيف والتعريف عسرة القراءة، بحيث تجعل المحقق في صراع مع كل لفظ من ألفاظها، وأحيانًا بين كل حرف من حروف ألفاظها. ومهما بذل محقق جهده ووكده فليس بمستطيع أن يحررها تحريرًا كاملًا»(20).
وعلق علامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر - رحمه الله - على تحقيق عبدالسلام هارون لمخطوط أسماء جبال تهامة قائلًا: فأصل الرسالة هو النسخة الوحيدة الموجودة في المكتبة السعيدية في الهند، وهو أصل كثير التحريف والغلط وكثير من حروفه مهمل من الأعاجم، فإذا لم يعول عليه الأستاذ - أي: عبدالسلام هارون - تعويلًا تامًا فله العذر، ولكن ينبغي الإشارة إلى أصل كل كلمة وردت في الأصل حينما تستبدل بغيرها، والمحقق الفاضل عوَّل على معجم البلدان لياقوت ومعجم ما استعجم للبكري، وهما قد اشتملا على جل ما في الرسالة إن لم يكن كلها، ولكنها - وخاصة معجم البكري - وقع فيهما كثير من التصحيف ولهذا فاعتبار كل ما ورد فيهما صحيحًا أمر يحتاج إلى تثبت...إلخ(21).
قلت في الختام: ليت الدكتور عبدالرزاق الصاعدي تثبّت وتيقن من شخصية عرام السُّلَمي قبل أن يطرح مثل هكذا طرح يتخلله النقص والتأويل المبني على الافتراضات والاحتمالات، وليته تجشم قليلًا قبل أن يبدي رأيه في عَرَّام السُّلَمِي من منظور شخصي، وليس علمي؛ لكي يفصح لنا عن شخصيته المضطربة، ويعطيه حقه من التوضيح والبيان، وليته ذكر لنا جميع أقوال العلماء الذين عرفوا شخصية عرَّام وتحدَّثوا عنها بكل شفافية ووضوح، فهل غفل أولئك العلماء الأثبات الذين عُرف عنهم التدقيق والتمحيص عمَّا ورد عن عرَّام في المصادر ووهموا في أمره، حتى يأتي الصاعدي بما لم تستطع الأوائل، وكيف يقارن بين علماء أثبات مثل الهَمْداني والأصْفَهَاني والبكري والحازمي وياقوت وغيرهم من الذين لهم مصنفات كثيرة وبين عرام السُّلمي الأعرابي الذي ليس له مؤلف معروف؛ إلا ما نقل عنه بالرواية؟ فحقيقة الأمر أن ما ذكره الصاعدي في مقاله أمر مستغرب منه، وهو الذي عرفناه لغويًا محقّقًا ومُدقّقًا، فكيف غفل عن ذلك وأخذ يبني على الاحتمالات والاستنتاجات التي يبطل بها الاستدلال؟ ولماذا اجتزأ بعض النصوص وعسفها بما يتوافق مع وجهة نظره؟ ولماذا لم يُقلب النظر بالإلحاح في البحث حتى تنضبط الأقوال؟ ويتضمّن الفهم نقاوة التحقيق؛ لكيلا يظل نهب الأفهام الكليلة بما لا يليق بمكانة (عَرَّام) وزمنه ونشأته وعلمه!! ولو أن (عَرَّامًا) لم تعطه المصادر حقه من الترجمة والوضوح، ولم يُعْنَ من الباحثين بالتقصي والشمول، ولا عن العصر الذي عاش فيه، ولا عن تحديد زمن مولده ووفاته، وأين كان يعيش في بداية حياته؟ وما مبلغ علمه بين أهل عصره؟ وما هي آثاره الأخرى؟ إلى غير ذلك مما يتعلق بإيضاح جميع جوانب حياته التي يحتاج الباحث إلى معرفتها؛ إلا أن عَرَّامًا أفاد برواياته واعتُمِدَ عليه كثيرًا، وبقي أن نقول: ما رواه وأملاه كفيلٌ بأن يجعله من خطوط العلماء(22) كما ذكر النَّديم.
... ... ... ... ...
الهوامش:
(1) بحوث وتحقيقات، للميمني: (1/465-466).
(2) معجم معالم الحجاز، المقدمة، (ص10).
(3) معجم البلدان، لياقوت الحموي: (5/365)؛ الدرر الفرائد، للجزيري: (2/182)؛ المسالك والممالك، تأليف: إبراهيم بن محمد الإصطخري، (ص22)؛ صورة الأرض، لابن حوقل: (1/34)؛ الإكليل: (1/270-272)؛ صفة جزيرة العرب، للهمداني، (ص244-245)؛ الحاوي الكبير، للماوردي: (5/97)؛ المجموع اللفيف، الطريق إلى مكة، للأفطسي: (ص268)؛ الشافي، للمنصور بالله، (1/770).
(4) عرام: ابن خراسان في معاجم اللغة والبلدان، تأليف: بندر بن حسين الزبالي الحربي، دار قدموس للنشر والتوزيع، الظهران، الطبعة الأولى، 1443هـ/2021م، (ص7-142).
(5) قال في مادة عَطس: قال عَرَّام السُّلَمي: لأن الإنسان يعطس قرب الصباح...إلخ. ينظر: كتاب العين، للخليل الفراهيدي، تحقيق: هنداوي: (3/181).
(6) ينظر: كتاب العين، للخليل الفراهيدي: (2/212-213).
(7) المناسك، للحربي، (2/538).
(8) ديوان الخنساء، لثعلب، (ص88)، و(110)، و(121)، (ص203).
(9) الفهرست، للنديم، (1/129).
(10) معجم ما استعجم، للبكري: (1/4-5) المقدمة.
(11) معجم الأدباء، لياقوت الحموي: (1/254)؛ معجم البلدان، لياقوت الحموي: (1/11)، (2/92-93)، (2/71)، (3/133)، (3/204-205)، (3/371)، (5/373).
(12) انباه الرواة على أنباه النحاة، للقفطي: (4/122).
(13) ذكر النص سابقًا، ينظر هامش رقم: (1).
(14) كتاب أسماء جبال تهامة وسكانها...، مقدمة المحقق، (ص9-10).
(15) كتاب أسماء جبال تهامة وجبال مكة والمدينة...، مقدمة المحقق، (ص5-6).
(16) الأعراب الرواة، للشلقاني: (ص178)، (ص207).
(17) الإبداع والمحاكاة في حكاية كتاب العين، للسامرائي، (ص62).
(18) تاريخ الأدب الجغرافي العَرَبي، لكراتشكوفسكي: (1/127).
(19) بحوث وتحقيقات، للميمني: (1/464-468).
(20) نوادر المخطوطات، لعبدالسلام هارون: (2/382).
(21) مجلة المجمع 28: العدد الثالث ص396-402 بتاريخ شوال سنة 1372هـ، والعدد الرابع ص592-599 بتاريخ المحرم سنة 1373هـ.
(22) خطوط العلماء: عبارة استخدمها النديم في الفهرست، ويقصد بها كل عالمٍ كان له في مجال شخصه أو زمنه تأثير كبير. الفهرست، للنديم، (1/129).
** **
- بندر بن حسين الزبالي الحربي