م. بدر بن ناصر الحمدان
تجربتي العملية في حقل التراث العمراني السنوات الأخيرة، وتعاملي المباشر مع نماذج متعددة من البلدات التراثية وأواسط المدن القديمة التي تم تخطيطها بشكل تلقائي من قبل سكانها، وما تحتويه من عمارة عاميّة وشعبية شكّلت نسيجاً مدمجاً بين الإنسان والعمران، أوجدت بداخلي حزمة من التساؤلات حول ماهية تخطيط المدن وفق المفاهيم الحديثة والذي لازال مسؤولوه في نضال دائم للبحث عن الأسلوب الأمثل لتكوين تدابير عمرانية قادرة على التعبير عن فهم علاقة الإنسان بالمكان.
جملة المقارنات التي رافقتني تلك السنوات أثناء محاولة قراءة التباين بين مدن الأمس ومدن اليوم ذهبت بي الى العديد من الاستنتاجات التي تناولت جوانب متعددة ومتشعبة من فلسفة وأنماط التخطيط والبناء، إلا أن ثمة عنصر اختلاف رئيس يمثل في نظري العامل الأهم في تلخيص أوجه المقارنة تلك يكمن في تفرّد المدن القديمة بمراعاة المعايير الإنسانية أثناء تشكيل نسيجها العمراني والمحافظة عليها مما مكّنها من خلق توافق كبير وممنهج بين البعد المادي الذي يعتمد على مكونات المكان والبعد الثقافي الذي يعتمد على سلوكيات الإنسان وأسلوب عيشه في هذا المحيط سواء كان ذلك يتعلق بمستوى تخطيط المدينة نفسها أو بمستوى بناء مفرداتها المعمارية.
غياب المعايير الإنسانية في تخطيط المدن الحديثة أدى الى عدم قدرة الإنسان على إدراك تفاصيل المكان الذي يعيش فيه، وفقده الإحساس بقيمته داخل الفراغ العمراني، وكنتيجة لذلك حدث تدهور كبير في النسيج الاجتماعي المرادف للنسيج العمراني، وتباعدت الأماكن، وتشتتت حياة الناس، وزاد زمن الرحلة داخل هذه المدن، ورافق ذلك تحوّل سلبي كبير في أنماط العيش وعلاقة السكان ببعضهم البعض، ونشأت العزلة العمرانية، وانعكس ذلك على جودة الحياة التي تعتمد في الأصل على العامل المعنوي للإنسان.
المعايير الإنسانية في المدن القديمة - وإن كانت تلقائية بطبيعتها - إلا أنها كانت ولازالت تمثل عنصر التفوّق الذي استطاع بناء أماكن تشبه الناس، وتُشيّد لهم أماكن قابلة للعيش بشكل جماعي، وتمكّنهم من التعايش مع مواردهم المتاحة والتعرف على مهاراتهم، وتحفزّهم على الانتماء، وتشعرهم بالأمان، وتجعل منهم مصدراً للتشريعات التي تعبّر عن ضوابطهم واحتياجاتهم.
باختصار هي تمثّل أداة لبناء مدن أكثر «دفئاً» بالتعبير المجازي، وهذا ما تحاول المدن استنساخه اليوم من خلال مشاريع تجمع الناس في محيط واحد ليشعروا بالحياة مع الآخرين.