علي الخزيم
المعتمد بن عبَّاد (آخر ملوك بني عباد بالأندلس) كان فارساً عارفاً بالرجال شاعراً جواداً كريماً يحتشد بمجلسه عِلْيَة القوم، غير أن بهاء المُلك وسطوة السلطان وتدفق الأموال بين يديه وحاشيته قد أفضى إلى ترف وانغماس بالملذات دون إدراك وتفكير بالعواقب رغم تلميحات ونصح بعض المخلصين، حتى أن يوسف بن تاشفين زعيم المرابطين وقائد المعركة الإسلامية الفاصلة ضد الروم (الزَّلاقة) حين توجَّه بجيشه لتوحيد ممالك الطوائف بالأندلس وتخليصها من أيدي بعض ملوكها ممن تهاونوا بحمايتها؛ واستعان بعضهم على بعض بملوك أعدائهم النصارى الذين ساموهم الذل والهوان والإتاوات والمعاهدات الجائرة، دخل ابن تاشفين مجلس المعتمد فلم يتناول طعاماً وشراباً وقال: إن كان ولا بد فالماء! ولم يدرك الحضور مغزى إشارته تلك، وحين انصرف تهامس المعتمد مع خاصته متسائلاً: لِمَ لَمْ يَمُدَّ يده لموائدنا رغم أننا لم نستثيره بما يزعجه من أمور السياسة والحرب؟! فانتهى المعتمد إلى أن وَرَع القائد ابن تاشفين قد منعه من استخدام آنية مطلية بماء الذهب خلاف إناء الماء! هنا الفرق بين مَلِك رغم علو شأنه ورجاحة عقله غلبته أبَّهة النَّعيم وسارت به إلى نهايته، وقائد حصيف يعمل مخلصاً لمبادئ الدين والعروبة لم تعجبه حال ملوك الطوائف فعمل على إنهاء تلك الفوضى حتى تم بالأخير أسر ابن المعتمد ونفيه إلى بلدة (اغمات) قرب مراكش عاصمة دولة المرابطين، وقد سبقه بعض ملوك الطوائف اقتياداً إلى تلك القرى ليعيشوا بقية حياتهم بما يناقض ماضي الترف والإسراف والتنعم، وكان يجب أن تكون تلك القصص موعظة لمن يسومون شعوبهم الآن سوء العذاب والمهانة ويعبثون بمقدراتهم وثرواتهم، وبذات الوقت تأكيداً لمحامد وعدل من يعملون للنهوض ببلادهم وحماية مقدساتهم ويسارعون للتطوير والإنجازات؛ وأعظم مثال قيادتنا الرشيدة برعاية خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده حفظهما الله.
ومن الأمثلة التي تحمل العِبَر ما عُرف بيوم الطين؛ ذلكم أن زوجة المعتمد بن عباد مع أنها شاعرة مبدعة وكاتبة مُجِيدة ومتابعة للإبداع الثقافي الأدبي الأندلسي، إلَّا أنها وقعت بمتاهات النعيم والترف، فقد كانت (اعتماد الرُّمَيكِية) فتاة فائقة الجمال جمعتها الصدف بالمعتمد حين كان يتفسَّح مع وزيره وشاعره ابن عمَّار بجانب نهر؛ فقال المعتمد شطر البيت: (صَنَعَ الريحُ منِ الماءِ زَرَد)، وطلب من شاعره إكمال البيت غير أن قريحة الأخير لم تكن حاضرة فبادرت جارية تغسل أثواباً بجانب النهر فأكملت: (أَيُّ درعٍ لقتالٍ لو جمدْ)! فالتفتا إليها وأعجب المعتمد بجمالها وفصاحتها، فكانت هي الجارية الرميكية نسبة لصاحبها، فاشتراها وأعتقها وتزوجها وأنجبت له، وغمرته السعادة بصحبتها، وانتقلت من الرِّق والفقر إلى الجاه والقصور، وذات يوم حَنَّت للعودة للمشي بالطِّين؛ وتحت إلحاحها أمر المعتمد أن تُخلط أصناف الطيب والحنَّاء والزعفران كالطين لتمشي فوقه، ففعلت وبناتها وجواريها، وفي منفى (اغمات) ندمت على فقد الرفاهية، وتخاصمت مع المعتمد وقالت: لم أر منك خيراً قط! فقال: ولا يوم الطين؟! فاعتذرت، وذهب قوله مثلاً، فما نرفل به من النعم يلزم تعظيمه وحفظه شكراً لله سبحانه.