د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
كان كتاب (الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر) للأستاذ الدكتور محمد محمد حسين رحمه الله 1982 - 1912م من أوائل الكتب التي قرأها صاحبكم في بداية المرحلة المتوسطة حين أُهديَ إليه - ضمن جوائز التفوق العلمي - ولم يَعْيَ بفهمه، بل وجد فيه متعةً كبيرة؛ فاستلهم منه تأريخ الحركات الثقافية، وبالرغم من كبر حجمه في جزأين، فقد صار مرجعًا مهمًا في مكتبته آنذاك، وما يزالُ فيها مقاومًا عوامل التعرية والتجوية.
** لا يستعيد منه اليوم سوى رؤيةٍ بثتها مقدمتُه متصلةٍ بمرحلية التفكير - وإن لم يُسمِّها كذلك - متساوقةٍ مع تبدل المكان والزمان؛ فلا يُحكم على أدب الجاهلية بموازين الإسلام، ولا يُحاكمُ من عاشوا في ظل الخلافة العثمانية بما شهدته حركات التحرر بعد سقوطها، ومن احتواه نظامٌ لا يُرى بمقاييس من خَلَفه، وكأنه شرع لقارئه أن يختلفَ معه ومع كتابه الذي صدرت طبعته الأولى في النصف الأول من الخمسينيات الميلادية في القرن الماضي.
** مثّل له، وربما لبعض جيله وأجيال تلت، مرجعًا مكتنزًا بالشخوص والنصوص، وأحسَّ أن أحكامَه لا تُلزمُه فتأثر به وافترق عنه، وأيقن أن «العقلَ المنطلقَ» يأخذُ ويترك، ويحاكم ويحتكم نائيًا عن تخويف الجديد وسطوة القديم، وهنا مدارُ الرؤية والرويَّة.
** للمنزل تقاليدُه، وللمدرسة تعليماتُها، أما الشارعُ فله أحكامُه، وكانت - في زمنٍ مضى - محدودةً فامتدت اليوم بالتقنية الرقمية التي صار الشارعُ ميدانَها والشعبويُّون محركَها، وهي مرحلةٌ تلتْ مراحلَ تفاوتت فيها السيادةُ القِيميّة؛ فدانتْ للسلطة الأبوية والتربوية زمنًا، ثم استسلمت للمنابرِ الخارجية عبر شرط الكاسيت والمحاضرات الموجهة والمنشورات والكتيّبات، وهي اليوم عبر الوسائط التي توشك أن تنسفَ المرحلتين السابقتين، وتدينَ لذوي المواقعِ المرئية، وتحِلَّ محلَّ المواقع الكتابية والجماعية.
** أملت الفرديةُ منهجًا جديدًا يفترضُ تقابليةَ الواحد بالواحد، وبالمئة، وبالمليون، وعُدنا للفصل الدراسيِّ العتيق مع فارقٍ مهمٍ في عاقبة وعقوبة الموافقة والاعتراض؛ إذ لا عصا واحدًا، بل عِصيّ وعصيانٌ ومعاصي، وشعار التمرد هو الأليقُ بهذه المرحلة التي لا تخصُّ بيئةً بعينها، ولا أقوامًا معيَّنين.
** تجمعَ المراحلَ كلَّها الإملاءاتُ ذاتُ الاتجاه الأُحاديّ من خلال قانون: (افعل - لا تفعلْ)، وقد اتفقت المراحلُ على مقدرةِ الناس على اطّراحها عند تبدلِ الأحوال؛ فلم تحل البيئة المغلقة عن أن يخرج منها مندلقون، ولم تعدم التيارات المؤدلجة ألّا يستجيبَ لها البرمجيّون، واستقلَّ الشخوصُ بنصوصهم فاندثرت التوجيهات وقعد الموجهون.
** ينعتقُ معايشو كل مرحلةٍ من القيود؛ حينًا خلال المرحلةِ نفسِها، وحينًا بعد انصرام زمنها، ويتعب المستجيبون للإملاءات حين يبدو لهم الإملاءُ مشبهًا تأميمَ أذهانِهم، ومرَّ ببعضنا من افترضَ نظريةً موازية لـ: (افعل ولا تفعل) وهي: (اقرأْ ولا تقرأْ)، وحين يستيقظ العقل الرافض للإملاءات فسيشجيه أنه سمع فأجاب، وحُرم من ثقافةٍ كانت من حقه، ومن محاكمةٍ افترض أنه المدَّعي والقاضي فيها.
** القراءةُ تفكير.