د.فيصل بن عبدالله السويدي
إن تصور المستقبل ليس خيالاً جامحاً بل إبداعاً يُجيده القادة الملهمون من خلال إدراكهم الواعي بواقعهم الذي ضاقوا به ذرعاً فغادروه حاملين أحلامهم نحو استشراف مستقبلٍ يواكب تضخم الطموح لديهم، يحدوهم في ذلك إصرار وعزيمة وشوق إلى قادم يكونون فيه هم الأفضل، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- القائد الملهم حمل هاجس الدعوة إلى الله، فملك رؤية مستقبلية أذهلت الصحابة فازدادوا تمسكاً بنهجه القويم، إنها رؤية مشرقة لمستقبل الإسلام الذي سيلج كل بيت مدر ووبر، بل إن هذا الدين سيبلغ مداه ما بلغ الليل والنهار فتحققت نبوءة المصطفى -عليه الصلاة والسلام- بعز عزيز وذل ذليل.
هكذا هم القادة الملهمون يسابقون الزمن؛ ليصنعوا مستقبلاً يتواءم مع تطلعاتهم التي يصبون إليها، فلا عجب بعد ذلك أن يكون استشعار المستقبل قوة خفية تزيد من انبهار المرؤوسين بقائدهم، ففي دراسة مسحية أجراها باري بوزنر على الآلاف من الأفراد حول العالم، وكان السؤال الذي وجهه إليهم، ما هي السمة التي يرغبون وجودها في قيادتهم؟ فكانت الإجابة المتفق عليها أنهم يريدون قادة يتمتعون برؤية ثاقبة لمستقبلهم.
مارتن لوثر كنج قائد الحرية والمساواة في أمريكا انطلقت رؤيته للمستقبل من خطابه المشهور (لدي حلم)، وكان حلمه الذي يرنو إليه أن تسود العدالة والمساواة المجتمع الأمريكي بأطيافه وأعراقه كافة غير مفرقة بين أبيض وأسود، وقد جاء المستقبل مترجماً حلم مارتن إلى الواقع بعد أن حطم مارتن لوثر سياج الطبقية التي كانت تقسم المجتمع الأمريكي إلى طبقة غنية مخملية ويمثلها البيض، وطبقة كادحة مستعبدة ويمثلها السود، إنه حلم سقى مارتن لوثر بذوره من دماء قلبه حتى أينع واستوى على سوقه عندما تقلد أوباما ذو الأصول الأفريقية سدة رئاسة البيت الأبيض.
يحمل الأفراد هاجس المستقبل ويخشون من خبايا الغد، فهم في حاجة إلى رؤية ثاقبة تنير لهم عتمة الطريق، فإن لمسوها في قائدهم زاد ذلك من الإعجاب به، والانضواء تحت رايته والسير في ركبه.
وهذا كوزيس أحد منظري القيادة في القرن الحادي والعشرين، يركز على أهمية حاسة استشعار المستقبل لدى القادة قائلاً: «يتوقع الناس من قادتهم أن يتمتعوا بنظرة مستقبلية؛ لذا يجب عليك أن تكون قادراً على تصور ماذا سيكون عليه المستقبل لتجذب الناس إلى الأمام».
على القائد الملهم أن يملك روحاً تواقةً نحو المستقبل ويعرف إلى أين يسير، فأهمية استشراف المستقبل تهدف بالدرجة الأولى إلى الارتقاء بجوهر العملية الإدارية وهما: القائد والمنظمة.
أما من حيث القائد فإن رؤية المستقبل تتطلب منه أن يملك روح المبادرة التي تملي عليه الانخراط في متغيرات المستقبل؛ ليكون القائد الذي يتوق أن يكون عليه بعد عقد أو عقدين من الزمن، وهذا لا يمكن أن يتحقق للقائد إلا بعدة عدة مراحل أهمها:
أن يكون لديه وعي مطلق بذاته؛ لينمي من المهارات التي ستتطلبها المرحلة القادمة، ويغير من المنهجية التي يسوِق بها ذاته حتى يتسنى له أن يتولى أدواراً قيادية في المستقبل، وأن يملك الشجاعة في صناعة القرارات التي ستكون أكثر استجابة لتحديات المستقبل، وأن يكون لدى القائد القدرة الخارقة في بناء علاقات حديثة على أنقاض علاقات تليدة لا تناسب المرحلة القادمة؛ ليضمن له البقاء أمام عواصف التجديد، إن رؤية القائد للمستقبل تسمو بطموحه؛ لتصل إلى المرؤوسين من أجل جذبهم نحو الأمام؛ ليكونوا أكثر تأقلماً مع المرحلة القادمة، فالقيادة لا تقتصر رسالتها على القائد وحده بل هي رسالة سامية تصبو إلى خدمة المرؤوسين، وإخراج أجمل ما لديهم من طاقات ومواهب فذة تنسجم مع المتغيرات القادمة.
أما من حيث المنظمة، فرؤية القائد للمستقبل تتطلب منه أن ينتشل منظمته من التلاشي والفناء من أمام ثلاثة تحديات مستقبلية محدقة وهي: العولمة، ومنافسة المنظمات الأجنبية، والتقنية، ولا يكون ذلك إلا عبر تحدي القائد لذاته ليخرج من منطقة الراحة التي يركن إليها وكسر حاجز الخوف الذي يشل قدراته إلى استكشاف طاقاته المذهلة والوصول إلى حقائق مبهرة، وخوض تجارب جديدة يطور عبرها فكره القيادي ويبدأ معها اكتساب المعارف التي تطور المنظمة، كما أن الرحلة نحو المستقبل تتطلب من القائد تطوير رأس المال البشري العامل في المنظمة، وذلك بالتعليم والتدريب والتنمية ومنحهم صلاحيات أكثر، ونفوذاً أوسع، وأن يُخضِع المنظمة تحت مجهر النقد مستفيداً من مرئيات البيئة الداخلية أو الخارجية؛ لتمتلك المنظمة القدرة البناءة في التعامل مع معطيات التغيير؛ لتكون أكثر قدرة على الشموخ أمام عواصف التجديد، فالمنظمات التي استحوذت حالياً على القيمة التنافسية ففاقت بها المنظمات الأخرى تميزاً وإبداعاً هي من صنع قائدها حاضرها من وعيهم وإداركهم بماضيهم.
وأختم بعد هذا بكلمة منال البارودي: (القائد الملهم لديه رؤية واضحة يستطيع من خلالها أن يرى الماضي ويتعلم من أخطائه ونجاحاته، ويعيش الحاضر بكل تفاصيله ويبدع فيه، ويستعد للمستقبل بكل تحدياته وغموضه، فالرؤية المستقبلية محفزة للانطلاق في الحياة).