لا تنحصر البلاغة على حُسن البيان والقدرة على الكلام والإبلاغ والتأثير، بل هناك بلاغة أخرى على قدر من الأهمية وهي (بلاغة الاستماع) فالإنتاج الواعي والتبيّن دليل على حُسن الاستماع وإعمال العقل، وهو ملكة تشبه في بنيانها ملكة البيان، ولا يملك القدرة عليها إلا من أوتي حُسن التفكر، ودقّة التعبير، وبلاغة الاستنتاج.
وقد عرّف ابن المقفع البلاغة بأنها القدرة على الاستماع فهي «اسم جامع لمعان تجري في وجوه كثيرة... منها ما يكون في الاستماع» والمقولات المبثوثة في كتب التراث البلاغي العربي تؤكد أهمية الاستماع وأنه أس من أسس التواصل، وله دوره في الإبانة عن المعنى وأهميته في عملية الفهم والإفهام «يكفي من حظ البلاغة أن لا يؤتى السامع من سوء فهم الناطق، ولا يؤتى الناطق من سوء فهم السامع»
وقد عُني الجاحظ في مؤلفاته بالمستمع وبلاغته وإن كانت بصور متفرقة تعود إلى طريقة ـ الجاحظ ـ في التأليف، فهي تحتاج لباحث دقيق يجمع بينها، يقول الجاحظ في تعريفه لعلم البيان إن المستمع الجيد هو القادر على ردِّ الخطاب، فالبيان: «اسم جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى وهتك الحُجب دون الضمير حتى يفضي السامع إلى حقيقته ويهجم على محصوله كائنًا ما كان ذلك البيان ومن أي جنس كان ذلك الدليل»، التعبير بالهجوم يدل على أن السّماع علامة من علامات نجاح الخطاب التواصلي، فردّة الفعل الواعية دليل على السماع الواعي، والتفكر العميق.
ومن مأثور القول إن السّماك تكلم يومًا وجعل جارية له تسمع كلامه، فلما انصرف إليها قال لها: كيف سمعتِ كلامي: قالت: «ما أحسنه لولا أنك تكثر ترداده» فقال: «أردده حتى يفهمه من لم يفهمه» قالت: «إلى أن يفهمه من لم يفهمه قد ملّه من فهمه» والاستجابة تؤكد على أن بلاغة المتكلم يخل بها ما ينفر الأسماع فيؤدي إلى اختلال البيان.
وقد نقل الجاحظ مقولات تؤكد دور بلاغة الاستماع وأهميتها: قال الحسن: «إذا جالست العلماء فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول، وتعلم حُسن الاستماع كما تتعلم حُسن القول» وذكاء المتكلم وكمال بيانه وتمامه يأتي من قدرته على استمالة المستمع فلنشاط السامعين نهاية»، «وجماع البلاغة التماس حُسن الموقع والمعرفة بساعات القول» وقال بعض الحكماء: «من لم ينشط لحديثك فارفع عنه مؤنة الاستماع منك» وقال عبد الله بن مسعود: «حدث الناس ما حدجوك بأسماعهم ولحظوك بأبصارهم، فإذا رأيت منهم فترة فأمسك» ونجاح بلاغة المتكلم تكون بقدرته على استمالة السامعين، فيؤدي ذلك إلى نجاح الخطاب ومشاركة أطرافه فيه مشاركة عادلة.
ونستطيع أن نرصد بلاغة الاستماع ونتائجها المتمثلة في إنتاج خطابات واعية أسهمت في الرد على الخطابات ـ الدينية أو الأدبية أو السياسية ـ بوعي و(هجوم على المحصول) كما قال الجاحظ، وذلك من خلال رصد بلاغة الاستماع في برامج التواصل الشفاهي وما نتج عنها من استجابات بليغة لفظية وغير لفظية.
** **
- رحمة القرشي
تويتر: (@RahmahQur)
إيميل: (ww.r7@hotmail.com)