للمرة الثالثة أتأكد من الطقس ودرجة الحرارة، درجتان تحت الصفر، ولكنه لحسن الحظ يوم مشمس وإن كان جزئياً مع بعض الرياح الباردة. الحمد لله البرودة تُحتمل إذا ضحكت لنا الشمس قليلاً، ولكن هذه الرياح لا شك في انخفاض حرارتها الشديد ولا أدري لماذا يزيد خبراء الطقس إحساسنا بقسوة الجو بتوكيد الصفة ونحن نقرأ تقاريرهم اليومية؟ إخلاصاً لدروس النحو أم ربما لأنهم يشعرون بقشعريرة أثناء إعداد النشرات الجوية ولا بد من مشاركتنا الوجدانية معهم، وبرغم أنّا كنا نقترب من البداية الرسمية لفصل الربيع 21 مارس لكني لطالما قلت لأصدقائي في هذه المدينة الجميلة «الربيع في مونتريال أو موغيال كما تدللونها، إشاعة يصعب تصديقها وسط البياض الكاسبيريّ!».
نظرت لساعتي بقلق وأنا بداخل المصعد، عليّ الإسراع قليلاً وإلا فاتتني الحافلة وسأضطر للانتظار للموعد التالي وهذا يعني الوقوف في مواجهة الرياح لأن موقف الحافلات يتربع على تقاطع شارعي شيربروك ودي كاري يعني جبل ويست ماونت ونهر سان لوران يغدقان علينا من هوائهما البارد بجود وكرم كبيرين. تباً لهواجسي التي شغلتني فلم أضغط على الدور الأرضي حيث مخرج العمارة الرئيسي والأسرع لي -نسبياً- للحاق بالحافلة لحضور المحاضرة العامة الأسبوعية في الكلية.
وجدت نفسي وقد وصلت لدور القبو حيث مواقف السيارات لسكان العمارة. «لا مشكلة البتة» هونتها على نفسي وخرجت مسرعة من هناك. استقبلتني نسمة باردة، ولكنها لطيفة على القلب، منعشة، فلا أجمل من الهواء الطلق وبعض من شعاع الشمس نبدأ به يوماً جديداً... ليت الشمس ودفئها الجميل كان يمكن تعبئته أو شحنه أثناء السفر لحملت ما شئت معي من بلدي الحبيب حين قدومي لهذه البلاد.. أخذت نفساً عميقاً واستعددت للانعطاف يساراً وصعود الشارع المرتفع قليلاً.
«عذراً سيدتي».. تناهت العبارة لمسمعي فتجاهلتها ظناً أني لست المقصودة ولكنها تكررت بصوت أقوى.. بالتأكيد الصوت يخاطبني فلم يكن هناك أحد سواي.. لا سيد.. ولا سيدة ولا يحزنون.. نظرت إلى الأعلى حيث مصدر الصوت الذي خيل لي أنه بدا مرتبكاً.
«صباح الخير سيدتي.. هل تحملين هاتفاً جوالاً معك؟».
استغربت السؤال من الفتى الشاب الذي كان يحدثني من شرفة بالدور الثاني في العمارة، أجبته بنعم على عجل وهممت بالانصراف فماذا عساه يبغي مني ومن جوالي ولو لم يبد لي في سن ابني أو حتى أصغر منه لما رددت على سؤاله الغريب أصلاً.
«أرجوك ساعديني، خرجت لشرفتي حين رأيت الشمس ضيفتنا اليوم وتركت جوالي في الداخل، ولكن الهواء أغلق باب الشرفة ولا سبيل لفتحه من هنا!».
لا شعورياً نظرت لساعتي لأرى هل كان لدي وقت كافٍ لمساعدة هذا الشاب...؟ بماذا أصفه الأرعن، أم الطائش، أم المتهور، أم غيرها من قائمة الاتهامات والانتقادات الجاهزة لدينا معشر الأمهات والآباء والمعلمين وكثير من أفراد المجتمع الذين نزهو بأنفسنا وبأننا الوحيدون أهل الحكمة والخبرة.
«وكيف أساعدك؟ هل خبأت مفتاحاً عند مدخل الشقة من الخارج مثلاً؟».
«لا للأسف».
«حسناً. سأتصل بمسؤول الصيانة فلديه المفتاح السحري لكل المبنى».
لم أنتظر موافقته لأقوم بذلك، ولكن الرد الذي حصلت عليه من الرجل كان محبطاً:
«أعتذر منكما سيدتي، أعيش على أطراف المدينة وأمامي على الأقل ساعة من الزمن لأصل إليكما».
ما العمل إذن؟ الوقت يمضي سريعاً حتى موعد الحافلة التالية سيفوتني ويبدو أن المحاضرة المشوقة التي حجزت تذكرتها مبكراً قبل عدة أسابيع ستطير أيضاً.. لجزء من الثانية وسوس لي الشيطان بالمضي وترك الشاب وشأنه، ولكن حين رفعت رأسي لم تر عيني سوى صورة صغيري وقد غافلني وأغلق باب حجرة النوم عليه بالضغط بأصبعه الدقيق على زر مقبض الباب وظل كلانا يبكي وينتحب وقد كنت أصبّره بعد أن خرجت من حجرة المكتب إلى الشرفة المشتركة التي بالطبع لم تكن لتفتح من الخارج، وقد أججت رؤيته لي المشكلة فكيف لطفل لم يتم عامه الثاني أن يفهم لم لا أستجيب لندائه وآخذه بين ذراعيّ كعادتي ولا أتركه يبكي كل هذا البكاء الحار ويداه الصغيرتان تضربان على الزجاج بكل قوته الواهنة.
«عذراً سيدتي»...
انتشلني صوت الشاب من الذكريات البعيدة، متسائلاً:
«هل يمكنك فضلاً الاتصال بأمي، سأعطيك رقم هاتفها، هي الوحيدة التي لديها المفتاح الإضافي لشقتي».
** **
- نادية عبدالوهاب خوندنة