د. إبراهيم بن محمد الشتوي
ذكرت في المقالة السابقة أن انتقال الكلام من فئة إلى أخرى وسيرورته يحدث فوضى في الوعي، كما ذكرت بعض الشواهد التي تحول فيها الكلام من مرحلة «فوضى الوعي» إلى أن يصبح كلاماً مقبولاً في المؤسسة الأدبية، وهي عملية طويلة يمر بها الكلام كما ذكرت من قبل. إلا أن السؤال الآن عن حالة «فوضى الوعي»، ما هي هذه الحالة التي يسببها انتقال الكلام من طبقة إلى أخرى، وكيف يكون هذا الشعور؟
يبدو للوهلة الأولى أن هذه الحالة هي حالة عجز وعدم قدرة على تمييز وجه الحكم الصحيح أو المعنى الصحيح، وذلك لحلول نظام عقلي داخل نظالم عقلي آخر، ولكن السؤال مرة أخرى يتمثل بأنه إذا كان المستقبل (بكسر الباء) لهذا النظام اللغوي الجديد قد تمكن من الفهم والرؤية، فما الذي يجعل هذا الفهم يحدث نوعاً من الفوضى في وعيه، وقد تمكن من إدراك المعنى؟ وهذا السؤال هو المشكلة التي نحن بصددها، وذلك أن هذا الفهم الناتج عن نظام الوعي الحادث لا يتناسب مع نظام الوعي الأصلي ما يجعله غير صالح له ولا متفقاً معه، وما يجعله أيضاً غير صحيح من زاوية المستعمل. قد يكون صحيحاً من زاوية الطبقة الأصلية التي نقل منها لأنه يتناسب مع إمكاناتها الاجتماعية (على أقل تقدير)، لكنه ليس صحيحاً من زاوية النظر للفئة التي نقل إليها، وذلك أنه يتعارض مع المكونات المستعملة عادة، ومع المعطيات الموضوعية، التي يستعملها المتحدثون الذين نقل إليهم الكلام، التي تتكون منها اللغة بوصفها أداة تواصل. وهذا بالضبط ما يعني «فوضى الوعي» أن يكون الكلام ظاهره صحيحاً لأنه ينتمي إلى النظام اللغوي العام، وهو صحيح لدى فئة من الفئات التي تستعمله، لكنه ليس صحيحاً لدى الفئة الأخرى التي نقل إليها، فإذا حكمت بصحته أصبح حكمها خاطئاً لأنه لا يتفق مع ما ذكرته سلفاً، كما أنه سيؤدي إلى استجابتها لمعايير وأعراف الطبقة الأخرى في الكلام، وإذا لم تحكم بصحته فسيؤدي إلى نوع من المغالطة لأنه صحيح في الوقت نفسه لدى منشئيه، ويمكن أن تحاج فيه بسبب ذلك.
بالإضافة إلى أن الحكم على الكلام بالصحة أو الخطأ، لا يتصل بالمعنى اللغوي بقدر ما يتصل بالسلطة بالمفهوم الفوكوي، لأن المعنى هنا في الغالب متصل بما يسميه البلاغيون بـ»لازم الفائدة»، وهو المعنى الذي تختص به فئة دون أخرى، ويحتاج الإقرار بصحته إلى القوة، فإذا منحته الفئة المنقول إليها الصحة، فإن هذا يعني خضوعهم لحكم الطبقة المنقول منها، والوقوع تحت نظامها اللغوي وهو ما يؤدي بدوره إلى الوقوع تحت هيمنتها اللغوية والفكرية.
ولذا فإن فوضى الوعي ناتج عن الاضطراب في الوظيفة التي يؤديها الكلام بين الطبقتين، فهو يؤدي وظيفة لا يؤديها عادة في الطبقة الأخرى ما يجعل شغله الوظيفة نفسها في طبقة أخرى مع اختلاف الظروف يؤدي إلى هذا النوع من الفوضى.
وسبب هذه الفوضى هو أهمية الدور الذي تقوم به اللغة بالنسبة لبناء الوعي، فهي التي تشكله بصورة كبيرة، وتبني الجزء الأكبر من العقل، فمن خلالها تتكون الثقافة، والمعرفة، ويتم التواصل مع الآخرين، وعليه فإن هذا التكوين الذي تكتسبه اللغة من خلال الطبقة لا يقتصر على اللغة، وإنما يتجاوزها أيضاً إلى طريقة النظر والتأمل. وفي النماذج التي ذكرتها من قبل عن تحول المستوى اللغوي من «فوضى الوعي» إلى نوع من الأدب، ما يؤكد طبيعة «الفوضى» أو الأسباب التي تجعلها تصبح فوضى مألوفة ومفهومة لدى المتلقي كالذي حدث للرومانسية والحداثة حين تحولت هذه الفوضى إلى نظام.
وعلى الرغم من أنها -الفوضى- تمنع المستقبل (بكسر الباء) من الحكم الصحيح في المرة الأولى، وقد تؤثر في رؤيته نحو الأشياء تأثيراً سلبياً، فإننا لا يمكن أن نقول إن هذه الفوضى هي خطأ محض، لأن هذا الخلل الذي يصيب الوعي من جراء المزج بين أسلوب الطبقتين، لا يلبث أن يفتح نافذة للوعي جديدة خارج النظام الأول باعتباره يحيل إلى منظومة تواصلية مختلفة تنعكس على بناء الأداة (اللغة). وهذا بالضبط هو ما يفعله الأدب، أو هو الأدب نفسه، الذي يتحدد عند الإنشائيين (البوطيقيين) بأنه ما يتوافر على إمكانات تتيح للمتلقي أن يفهمه على أكثر من وجه، ما يسميه البنيويون (وهم فرع عن الإنشائيين) بـ»تعدد القراءة».
أو يمكن أن نقول: إن «فوضى الوعي» نوع من الصدمة التي يحدثها النص الأدبي في المتلقي، يربكه يجعله يفقد إيمانه بالمسلمات، ويرتد إلى عقله رغبة في إعادة ترتيب وعيه، وتحديد بالضبط ما يراه أو يسمعه أو يحسه وفق خبراته السابقة ثم تحديد موقفه منه. (نستطيع أن نستشهد بموقف عتبة بن ربيعة).
بيد أننا لا نستطيع أن نذهب في هذا المذهب إلى نهايته لأننا نتحدث الآن عن تفسير للنص وفهم له انتقل من منظومة اجتماعية ذات مواضعات فكرية إلى منظومة أخرى، وهو ما يعني أن ما نتحدث عنه لا يتصل بشكل كبير بما ذكره الإنشائيون، الذين لا يتحدثون عن فهم منقول، وإنما يتحدثون عن فهم أصيل ينبع من المتلقي في نفسه من أثر النص، وهو ما يجعلنا نقول: إن هذه «الفوضى» تظل فوضى في المقام الأول محلها الخيال دون أن تتجاوزه لتحمل بعداً واقعياً ينعكس على النص حتى يمر بالعملية الطويلة والمعقدة المذكورة في المقالة السابقة.