عبد العزيز الصقعبي
إلى:...
عندما بدأت بالكتابة لك، حاصرتني أسئلة كثيرة، ليست وليدة اللحظة، بل موغلة في القدم، تخيل أن هذه الأسئلة بدايتها قبل أن تربطني علاقة بالقراءة والكتابة، وقتها، لم أعرف سوى كلمات بسيطة أتحدث بها مع عائلتي، وبعض من أراهم، ماذا تتوقع من طفل لم يتجاوز الخامسة أن يكون حديثه، عموماً أنا أتذكر، ولو كنت موجوداً حتماً ستتذكر، إنني أحضر لك بعض الطعام، بإناء صغير، تشكرني وتدعو لي ولأسرتي، الأمر حتى الآن ليس غريباً، بالذات في الأحياء الشعبية، حيث يكون الود بين الجيران بمختلف طبقاتهم وتنوعهم، ولكن أنا وبعد هذه السنوات الطويلة، من الصعوبة أن أتذكرك، مجرد أن أتذكر هيئتك، المكان الذي تقطن به، تنبثق أسئلة الطفولة البريئة التي تتشكل مع الزمن، ليس لك بيت، ولكن دكان صغير في ركن بيت، أتذكر أنه دكان صغير جداً، جزء من بيت طيني، تمت إزالته بعد سنوات، وبالطبع اختفى ذلك الدكان ذو الباب الخشبي، ولا أدري ما الذي حل بك، نحن انتقلنا من ذلك الحي، ابتعدنا قليلاً، لم أستطع أن أعود لذلك الشارع الذي به بيت قديم سكناه، وفي ركن الشارع البيت والدكان التعيس، إلا بعد سنوات حين أصبحت فيها تلميذًا يافعاً على مشارف المرحلة المتوسطة، تحول البيت إلى أنقاض، واختفيت، سألت عنك، تذكرك البعض، وأحدهم حاول أن يتذكر اسمك، «أبو..» أكد لي أن اسمك غريب وكنيتك أغرب، أنا لا أذكرها، كنت أقول يا عم، عندما أحضر لك الطعام، وأغادر بسرعة خائفاً، أذكر أن والدتي رحمها الله تتابعني من خلف الباب، حتى أعود للبيت، «أنت يا عم.. يا أبا..»لا أعرف بماذا أناديك، ولكن لأقل أنت يا ذلك الرجل القاطن في ذلك المكان الحقير، الأسمر قليلا.. أذكر أن بشرتك سمراء، أحدهم قال إنه من جنوب الجنوب، وآخر قال إنه من شرق الشرق، أعرف أنك غريب، لست من هذه البيئة، لذا فليس غريباً أن تدور في رأس الطفل أسئلة عنك، لماذا أنت وحيد، أين عائلتك، هل لك زوجة أبناء، لماذا هذه القذارة حولك، لماذا لا أراك مع الرجال في الولائم التي يقيمها والدي في بيتنا، أو في الحفلات التي تقام في حينا، لماذا لا نراك في الأعياد، تختفي، أمي قالت عنك أنك «مسكين»، ومن هنا انبثقت أسئلة كثيرة حول ذلك، أهمها، لماذا أصبحت مسكيناً، نتفق على أنك بائس ولا تملك شيئاً، ولكن ما الذي أوصلك لهذه الحالة، لم أعرف وقتها أن تلك الأسئلة هي بذرة لكائن روائي يقطن في أعماقي، كل من سكن في ذلك الحي قبل أكثر من نصف قر، يعرفك، ربما تحدث معك، ساعدك، عرف قصتك، ولكن بكل تأكيد نسيها بمجرد مغادرتك، سواء الحي أو الحياة، أو مغادرة من تعرّف عليك، وبكل تأكيد لم ينبشوا ذاكرتهم مثلي ليتذكروك، ويعيدوا إثارة الأسئلة من جديد، الأسئلة حتى الآن بلا إجابات، وصورتك باهتة في ذاكرتي، أحيانا أتخيلك أشبه بمشعوذ أسمر بشعر غزير أكرد، وأحياناً رجل هزيل يلبس ثوباً داكناً وفوقه كوت ممزق قديم مسودة أطرفه، وعلى رأسه شماغ بالي، أنا كنت لا أجرؤ على الدخول عندك، فقط أطرق الباب بيدي الصغيرة، وأقدم لك الإناء عند الباب، وبعد ذلك أٌغادر وأنا أسمع صوتك يلهج بالدعاء لي ولأسرتي، وفي اليوم الثاني آخذ الإناء القديم بعد أن أحضر إناء جديداً، ليست هذه المرة الأولى التي تذكرتك بها، ولكن دائماً أتذكرك عندما أشاهد صورة لبيت قديم في ركنه دكان صغير بباب خشبي، بالمناسبة أذكر أن لون الباب بني غامق، أقرب للسواد، ربما الدكان كان في زمن سابق محلا لبيع الحلوى، ولكن بوجودك أصبح مقراً لسكن رجل مسكين مشرد، تكرم عليه صاحب بيت وأسكنه، أنا سأُبقي هذه الرسالة معلقة، ربما في المستقبل أجد إجابة لأحد الأسئلة التي حاصرتني منذ الطفولة.