وفاء آل منصور
وجدتها، بل وجدت الأنشودة التي هزت كياني المتماسك وانا في عمر الرابعة عشرة حينما كانت معلمتي الحانقة علينا لكثرة الفوضى التي نسببها لها متجولين بين مقاعدنا كخلية نحل داخل فصولنا، لتعلن قدومها إلينا بلطماتٍ متواصلة على الباب معلنة حالة استنفار بعينيها اللتين تتقاذفان منها الحمم الغاضبة وبيدها مسجل وكأنه الخاص بالإذاعة المدرسية كما اعتدنا رؤيته كل صباح.
فنتقافز كالأطفال على مقاعدنا فنحن نعلم أننا سنكون مع موعد مع أنشودة تعيد النشوة لقلوبنا البريئة.
قامت بتشغيلها وكلنا آذان صاغية لجديد هذا اليوم من الأناشيد التي تروي تعطشنا ونحن على أبواب مرحلة المراهقة الشرسة وشتات الذات.
بدأت بوضع الشريط في المسجل وكنت حينها أجلس في الخلف أنظر وكلي آذان صاغية لما سيصقع بدني المتهالك من فرط الحركة.
حينها أصابنا الخرس جميعاً وانشلت أرواحنا بكلماتها المنسابة كريحٍ حنون لامست أجسادنا فتركتنا متقشعرين في أماكننا والدموع تختزن في محاجر عينينا مضيفةٍ بريقاً لامعاً على نظراتنا الوجلة.
«حياتنا يارفيق الدرب أسئلةٌ
من الدموع تشق الخد تسكابا»
مازلت أذكر هذا الشطر من الأنشودة, مازال عالق على مشاجب ذاكرتي بعد مرور 12 عاماً من التودد لذاكرتي للاحتفاظ بها رغم، لازلت أذكر معلمتي «منى» التي لم تحتسِ حنان والدها ألا بضع سنوات قليلة تاركها تتجرع ألم فقدانه بملاعق الحنين المرة، تساقطت دموعها أمامنا فاهتز الجبل الذي كنا نظنه ثابتاً لاتزعزعه عوامل التعرية الموسمية, اختطفت نفسها خارجاً كي لا تُشعرنا بوهنها وكأنها تعرت من كل العنجهية التي يتلبسها كل معلمينا آنذاك.
خرجت وتركتني خلفها على أعتاب الزمن أنتظر وأتقصى أثرها كي تعيد لي روحي التي انتشلتها تلك الكلمات الأثرة التي لم أعِ إلا القليل منها لقصور فهمي وقلة إدراكي في ذلك الوقت.
حتى أعاد العمر حساباته وقام باستئناف قضيتي من جديد بعد أن تمكنت من لقاء إحدى زميلاتي التي استجوبتها كقاضي القضاة في إحدى المحاكم الهزلية.
لتجيبني أنها كانت من أشد المعجبات بتلك المعلمة الهاربة من معترك الحياة.
وأنها وقبل أن تغادر مدرستنا طلبتها ذلك الشريط كذكرى منها كي تجنبنها مرض الحنين المزمن.
قلت وكلي تطفل غير آبهة بلطمات اللقاء الأول أرجوك أريد أنشودة يا رفيق الدرب فلقد بحثت مطولاً عنها في جميع المواقع ولكن دون جدوى، لتضحك قائلة كان بحثك عنها خاطئاً اسمها (حياتنا يا رفيق الدرب ) كي تظهر لك وليست رفيق الدرب، لأرد وكلي أسى فقد أفنيتُ وقتي باحثة عنها بحروفٍ ناقصة ولكن دون جدوى, وأنا في قرارة نفسي كنت أظن أنها شاخت وتوارت عن الحياة.
لترسلها لي كرابط إلكتروني، حينما عانقت عيناي كلماتها لم أستطع أن أضغط عليها لسماعها، فقد تيبست أطرافي وثلجت أعصابي فإني لست على استعداد لمعانقة الدموع وابتلاع الغصات، فقمت بتأجيل سماعها ليومين كعاشق مجنون يتهرب من خطيئةٍ عشقية.
لأبدأ بترتيب احتياجات رحلتي الجديدة لأحلق مع كلماتي القديمة وحروفٍ أصابها صدأ العمر وتجاعيد الزمن المضنية.
وعلى وسادات الحزن ارتميت مبحرة بين الحزن ووجع الحنين الذي لا يرحم، موعد ولقاء أعاد فتح دفاتري المنسية مع بضع كلمات تجزم بأننا كنا على ظهر الأرض أصحاباً, وسنكون بجنب القبر أغراباً..!