لعَمْرُكَ ما الرَّزِيَّة فَقْدَ مالٍ
ولا شاةٌ تَمُوتُ ولا بَعِيرُ
ولكنّ الرَّزِيَّة فَقْدُ فذ
يمُوتُ لِمَوْتِهِ خَلْقٌ كَثِيرُ
بالأمس القريب ودعت محافظة الزلفي أحد أبنائها البررة، وهو الوجيه الكريم ابن الكريم عبدالرحمن بن عبداللطيف القشعمي الذي ألمّ به عارض صحي لم يمهله طويلاً.. آه ما أحقر الدنيا وزخرفها وقصر مقامها وإن طال.. يد المنون تخطف الصغير والكبير، ولا تدوم على حال عندما يأتي موعد هادم اللذات ومفرق الجماعات، وكم من الأسى والحسرة عندما يفقد الأهل والأولاد والأصحاب رجلاً اجتمعت الكثير من الصفات بشخصه المحبوب.. إن مرارة الفقد لرجل بحجم وقامة الفقيد لشديد الأثر، فهو مفجع وموجع ومؤلم عندما يحدث فجأة ودون مقدمات ولكنه الموت:
هُوَ المَوتُ ما منهُ ملاذٌ وَمهربُ
متى حُطَّ ذا عن نَعشهِ ذاكَ يَركبُ
وقد كان لرحيل صاحب الخلق الرفيع والوجه الباسم الوفي الكريم المضياف وقعه، إذ هو امتداد لأسرة نواة سبقه فيها والده الكريم، وأسرة ممتدة لها كريم فضل وسابقة في المروءة والكرم وهي أسرة القشعمي الكريمة.
ربطتني بالفقيد علاقة قاربت الثلاثين عامًا كلما تجدد اللقاء كان فيها هو بسمته وبشاشته وحفاوته، التي هي جزء من تركيبته التي جبله الله عليها، إن كان في الواجب رأيته في أوائل الصفوف لا يتأخر في كسب العلم الغانم، مجلسه مفتوح للصغير والكبير، وفي مناسباته وما أكثرها تجده يحرص على دعوة الجميع يتصل ويلح في الدعوة، وتنفتح أسارير قلبه، وتبتهج نفسه فرحًا إذا زاره أو لبى دعوته أحد.. وينبئك عن ذلك كل من عرفه أو زاره في مجلسه العامر الشاهق في نفود الثويرات بمركز الجوي بمحافظة الزلفي، والذي سكنها الفقيد ووالداه وكثير من أبناء أسرته وأبناء المحافظة الأوفياء، ولن أنسى لزمته المعتادة كلما رأيته بقوله رحمه الله: (هاه يالبناخي مشينا مقاضب يدين، وإذا تعذرت منه لارتباط قال: ما راح أخليك إلا بموعد (طلبه) وهي -كلمة عفوية منتشرة عند أهل الزلفي تبين مقدار غلا الضيف وصدق المضيف- صل معنا الجمعة بالجوي جلستنا المعتادة بعد الصلاة غدانا والله ما نزيد) كانت هذه الكلمات العفوية تبين مقدار ما يحمله الفقيد من قلب (مخموم) لم يدخله الكبر أو الحقد أو الحسد، جسد يحمل كل معاني الرجولة الحقة عفة اللسان عن أعراض العباد وكفاف اليد عن ممتلكاتهم تطرب لجمال حديثه، ويدهشك سمته، وصمته عندما ينصت لحديث الآخر، وتغبطه على تقاه وعلاقته بخالقه فى كل أموره وشؤونه، مبادر لفعل الخير قريب منه.
كنت في محافظة الزلفي في يوم الجمعة التي سبقت وفاته بيوم وذهبت للجوي لزيارته وبعد الصلاة نظرت في الجامع للسلام عليه، وكان هو من يبادر في ذلك لو كان موجودًا ليصطحبك ومن في المسجد لمجلسه العامر، واستغربت فقده، وقلت في نفسي عسى المانع خير لأنه يندر غيابه، خاصة في يوم الجمعة بالذات، حيث كان لديه غداء بعد صلاة كل يوم جمعة طوال العام، وبعد الصلاة ذهبت إلى مجلسه ووجدت الأخوة والأبناء والضيوف، وسألت أخاه عنه فقال: واصل مشوار بسيط -وكان في ذلك لا يريد أن يكدر خاطر ضيوفه- وتبين لي أن هذا المشوار إلى الرياض هو الأخير له في حياته الدنيا -رحمه الله- وأنزل على قبره شآبيب الرحمة.. وفي صباح السبت يوم وفاته حدثتني نفسي للاتصال عليه للاطمئنان، ولم أكن أعلم عن الخبر الجلل الذي أخبرني به أحد أشقائي، والذي أبلغني فيه بخبر الوفاة فنزل الخبر علي كالصاعقة، اختلط معها الأسى والحزن على ذلك الفقد المفاجئ لرجل كان قريباً من القلب لرجل بقامة ومقام (أبو عبداللطيف) الذي كان أحد مباهج النفس بمدرسته البسيطة غير المتكلفة والتي أخذت من الريف عنواناً لها بالنقاء والصفاء ولم تعرف التلون أو التغير لما تحمله من فضائل وصفات كانت من نعم الله عليه إذ اجتمعت فيه.. وحرص على التمسك بها وبأدبياتها، والتطبع عليها منذ نعومة أظفاره، والتي تربى عليها واكتسبها من والده وأعمامه، مع كونها جبلة فطره الله عليها، حتى كانت لزمة (والنعم) تقال بحقه بنبرة الرضا والقبول كل ما جاء اسمه أو جاء ذكره، كيف لا؟ وهو سليل أسرة القشعمي التي أنجبت الرجال الكرام التي كانت أبوابهم مشرعة يوم كان الناس يعانون من شظف العيش، وقلة ما في اليد.. مع محبتهم طوال تاريخهم لأهل العلم وتقريبهم والاحتفاء بهم لتستمر الراية متوارثة من الآباء للأبناء، ومنهم الشيخ الكريم عبداللطيف الذي كان له علاقة ممتدة -استمرت بعد رحيله- مع العلماء وطلبة العلم ومشايخ وأئمة الحرم، الذي كان يزورهم ويحرصون على زيارته، تقديرًا له وبرًّا به ببلدة الجوي إحدى (عقل) الزلفي الشمالية المتربعة في وسط نفود الثويرات، حيث كان يكرم وفادتهم، ويظهر لهم المحبة والتقدير والدعاء، حتى وافته المنية -رحمه الله- وكان أبناؤه طوع أمره، ومحط نظره، ومعقد رجائه، ومنهم الوجيه الكريم عبدالرحمن -رحمه الله-، وهو الأكثر ملازمة ومرافقة لوالده بحكم السكنى معه بالجوي والقرب إليه، فكان باراً بوالديه رحمهمالله هو وإخوته.. ولكن عبدالرحمن كان متفردًا في ملازمته وعلاقته، يرقب والده وينظر إلى إيماءاته، ويعرف ما يريد فيسارع لتلبيته بأعذب الكلام (سم) و(أبشر) و(لبيه).
رحم الله الوجيه عبدالرحمن القشعمي، وغفر له، وجعل الفردوس الأعلى منزلته، وخالص العزاء لأولاده وإخوانه وأصحابه، وأسرة القشعمي الكرام، والحمد لله على قضائه وقدره.
** **
- فهد عبدالعزيز الكليب