د. محمد بن إبراهيم الملحم
التعلم الاختياري هو ممارسة ضمن ممارسات التعلم المستمر أو التعلم مدى الحياة بل هو أساسه الذي يقوم عليه، ويأخذ أنماطاً شديدة التنوع، فقراءتك للجريدة ولهذا المقال هي من التعلم الاختياري، ومحاولتك فهم الطريقة المناسبة لبناء بيتك أو صيانته أو أفضل الممارسات للعناية بمحرك سيارتك، هي من التعلم الاختياري، ورغبتك في تعلم أي لغة مثلاً هي من هذا القبيل، كذلك اهتمامك بالتعرف على كيفية تثبيت البرامج والتطبيقات وأساليب التعامل معها واستثمارها الاستثمار الأمثل لكمبيوترك أو لجوالك هي أيضاً من هذا اللون، وهكذا فإن التعلم الاختياري هو أساس حياة الإنسان وسر تقدمه سواء على المستوى الجمعي للمجتمع ككل أو على المستوى الفردي لنمو قدرات الفرد المالية أو الصحية أو المهارية لحياة أكثر استقراراً وأكثر سعادة ورفاهية، وهو تعلم يتسم بالقوة والثبات، ولهذا السبب فإن المؤسسات التعليمية كالمدارس تميل إلى محاكاة هذا الموقف التعلّمي القوي من خلال تنظيم الزيارات المدرسية للمعارض والمصانع والمتاحف وما إليها من الأماكن التي يمكن أن تستحث تعلم الطلبة الذاتي، بيد أن الزيارات المدرسية لا تصل في الغالب إلى ذروة ما يصل إليه المتعلم الاختياري الذي يحضر فردياً بصورة غير رسمية لأن المدرسة أو الجامعة قد تفرض هذه الزيارة فرضاً على الطالب، مما يجعلها مملة لكثير منهم، وربما يكون الأمر أفضل حالاً فتكون الزيارة اختيارية، بيد أن الطلاب أيضاً تقل استفادتهم في ظل معرفتهم المسبقة أن الطريقة التي تدير بها مؤسستهم التعليمية تلك الزيارات تميل إلى «الإمتاع» أكثر من الاستفادة فالزيارة قليلة التنظيم والانضباط وتعامل معاملة «الرحلة الترويحية» مما يجعلهم فعلاً يختارون الحضور ولكن ليس للاستفادة والتعلم وإنما للمرح والمتعة مع بعضهم، وهنا ينتفي مبدأ التعلم الاختياري، بينما الوضع السليم يقتضي أن تكون هذه الزيارات أكثر جدية، فتكون مبرمجة ولها أنشطة قبلية تعرف الطالب بموضوع الزيارة وتقدم له ما يشوقه إلى التعرف على هذا الموضوع عن قرب والسماع من المتخصصين الذين يعرفون تفاصيل أكثر مما يعرفه المعلم حيث يقدمون المعرفة المبنية على الخبرة والممارسة، وعندما يعلم الطلاب أن الزيارة ذات طابع تعلمي بهذه الطريقة المنظمة فإن المهتمين فقط هم من يسجلون فيها ولذلك سترى عشرين أو ثلاثين طالباً فقط بدلاً من ثمانين أو مائة وخمسين، والواقع أن هؤلاء الطلاب القل عدداً سيكونون أكثر استفادة وزيارتهم مجدية أكثر بكثير من زيارة العدد الكبير القادم للمتعة فقط.
إن التعلم الرسمي بكليته هو ليس سوى محاولة لمحاكاة التعلم الاختياري وهي محاولة تصيب أحياناً وتخطئ أحياناً بقدر قربها من محاكاة حاجة الإنسان وتماهيها مع مجتمعه الذي يعيش فيه، ولهذا كان من الخطأ الكبير استيراد المناهج استيراداً كاملاً وعدم تكييفها مع واقع المجتمع وحاجاته، كذلك يلعب الإرشاد الاجتماعي والطلابي دوراً في تهيئة الطالب لتفهم قيمة التعلم الرسمي وأنه لا يجب أن يختلف عن التعلم الاختياري الذي هو المسار التلقائي الفطري للإنسان، وعموماً فإن تكييف التعلم الرسمي ليبدو مماثلاً للتعلم الاختياري هو أصعب مهمة تقوم بها المؤسسة التعليمية والعاملون في المجال التربوي بل هي فن من الفنون State of Art قبل أن تكون علماً يدرس وممارسة تستوعب.
أبرز ما يجب أن تهتم به المؤسسة التعليمية في هذا المجال هو زرع مبدأ التعلم مدى الحياة Lifelong Learning أو ما يسمى أيضاً بالتعلم المستمر Continuous Learning (وهو يختلف عن مصطلح التعليم المستمر Continuous education المشير غالباً إلى التعليم الموازي أو استكمال الدراسة لكبار السنة) حيث يقوم هذا التعلم المستمر على تعود الطالب على الحصول على المعلومة بنفسه، وتنظيمها، وتسجيلها، لإمكانية الرجوع إليها لاحقاً، فهو كمن يعد الغداء لنفسه ولا يعتمد دوماً على المطعم، ومع أني أشرت لذلك مسبقاً في دور الأبوين مبكراً قبل دخول الطالب المدرسة (ويجب أن يستمر حتى أثناء دراسته وبعد تخرجه فهو طريقة حياة Life Style) إلا أني أؤكد أنه واجب أيضاً على المؤسسة التعليمية فينبغي أن تتضمن مناهج التدريس أساليب وطرائق وأنشطة تقوم على هذا المنهج، كما يجب أن يزود المعلمون بأدوات كافية ومميزة لتساعدهم على القيام بهذا الواجب، ولن أتحدث طبعاً عن أهمية تدريبهم عليه وإعطائهم الوقت الكافي في خطط المنهج الزمنية لممارسته، بل إني لا أبالغ لو قلت إنه يحسن تكوين مقرر أو أكثر حول التعلم الذاتي، وأعتقد أن مقرراً مثل «التفكير الناقد» كان يجب أن ينمط بهذه الطريقة بدلاً من الأسلوب الإلقائي وحشد المصطلحات الصعبة والأفكار المتعسرة على الطلاب فيه.