أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: يرى المستشرق (بروكلمان) والأستاذ (عباس محمود العقاد) والدكتور (ممدوح حقي): إنَّ أتباع (داود) ما سموا بالظاهرية إلا على سبيل المقابلة بينهم وبين الباطنية.. انظر تاريخ الشعوب الإسلامية لبروكلمان ص 312.. ومقدمة حجة الوداع لممدوح حقي ص 20.. والتفكير فريضة إسلامية للعقاد ص 129 - 134.. ولعلهم اعتمدوا على كلام لابن العربي بعارضة الأحوذي عند شرحه لحديث (تفترق أمتي) إلخ وقوله شعراً:
فالظاهرية في بطلان قولهم
كالباطنية غير الفرق في الصور
ولم يدلل (بروكلمان)، و(ممدوح) على هذه الدعوى، أما العقاد فإليك ما استدل به:
1 - أن الدعوة الفاطمية - أو الإمامية الإسماعيلية - على أقوالها وأشيعها في بلاد المغرب من أفريقيا الشمالية، وكان ابن حزم أموياً شديد التعصب للدولة الأموية، شديد الإنكار على من يقاومونها من العلويين وغيرهم، حتى قال بعضهم: إنه ناصب.
2 - نصوص لابن حزم فيها:
أ- تقرير أن دين الله ظاهر لا باطن فيه، وجهر لا سر تحته، ولم يكن عنده عليه السلام سر،ولا رمز ولا باطن غير ما دعا الناس إليه، ولو كتم شيئاً لما بلغ كما أمر، ومن قال هذا فهو كافر.
ب - عدم جواز الوراثة في الإمامة الكبرى- خلافاً للروافض.
ج - أن ابن حزم يوجب الاجتهاد على جميع المسلمين، وينكر أن يختص به إمام واحد يفتي بعلم ينفرد به ولا ينكشف للمسلمين عامة من نصوص الآيات والأحاديث.
وبنى الأستاذ العقاد على هذين الدليلين أمرين:
الأول: أن المذهب الظاهري نشأ ليقاوم الباطنية من الناحية الفكرية.
الثاني: أن المذهب الظاهري ابتعثته دواعي السياسة في المغرب.
وما ذكره الأستاذ العقاد - رحمه الله - باطل من ثلاثة عشر وجهاً:
الأول: أن المذهب الظاهري نشأ في ثنايا القرن الثالث، والباطنية لم تنشأ إلا فيما بعد عام 270هـ أي بعد إمام المذهب الأول (داود).. انظر الفرق بين الفرق وحاشيته ص 22 وص 282.
والثاني: أننا لا نعهد لـ(داود) اتصالاً بالباطنية أو مناقضات له مع أعلامهم، وهذا على فرض أن لهم جذوراً في عهده. ولسنا نعهد لتعليماتهم شيوعاً في الوسط الذي عاش فيه داود بحيث نستطيع أن نقول نشأت الظاهرية لتقاوم الباطنية.
والثالث: أن الظاهرية خصومة عنيفة بين أصحاب المذاهب الفقهية الإسلامية من حنفية ومالكية وشافعية ونقض لأصول مذهبهم كالقياس، والاستحسان، والرأي، والتعليل، والتقليد ولم يذكر أحد من القدماء أن داود اطلع على فقه أهل الباطن، وعلى أصول فقههم.
والباطنية مذهب عقائدي، ولو كانت الظاهرية مقاومة للباطنية لكان صراعها صراعاً عقائدياً، والواقع: أن الظاهرية صراع فقهي عنيف.
والرابع: أن المسلمين على العموم ينكرون مذهب الباطنية، وينكرون أن يكون في شرع الله سر أو رمز أو باطن.
وإذ لم تتميز الظاهرية بهذا، فلا يصح أن تتميز بوصف مقاومة الباطن بل أقول إن الأصل عدم القول بالباطن.
والخامس: أن الباطن أو السر أو الرمز الذي تقول به الباطنية وتقصر تفسيره على فرد بعينه: غير مسائل الرأي والقياس التي يذكرها المجتهدون في كل عصر ومصر، وكتب الظاهرية مقومة للأمور الأخيرة فقط.
والسادس: أن مخالفة الظاهرية للباطنية أمر طبيعي يشاركها فيه أهل القبلة وإذن فمجرد الخلاف بين مذهب ومذهب لا يعني أن أحدهما نشأ ليقاوم الآخر إلى أنْ يثبت اتصال بين رجال المذهبين.
والسابع: أن نفي الوراثة في الإمامة والتشجيع على الاجتهاد: ينافي تعليمات الباطنية (بلا مراء)، بيد أن الظاهرية لا تختص بهذه الآراء من ناحية، ومن ناحية أخرى: فالتشجيع على الاجتهاد نشأ مقاومة لتقليد الأئمة في الفروع، ونفي الوراثة قام على نصوص شرعية، ولم يفتقر هذا الحكم الذي قال به الظاهريون إلى وجود الباطنية، وإنما الحكم نتيجة النص، وثمرة الاجتهاد سواء أوجد من يخالف النص أم لم يوجد.
والثامن: أن الظاهرية لم تحظ بتأييد سياسي لا في عهد داود ولا في عهد ابن حزم بل حورب ابن حزم من قبل السلطان لأنه ظاهري.
والتاسع: أن ابن حزم لم يشغل نفسه بالباطنية في كتبه كما شغلها بمناقشة الحنفية والمالكية والشافعية، وإنما رد عليها في كتابه: الفصل كما رد على غيرها من الفرق.
والعاشر: أن ابن حزم مولى بني أمية فتعصب لهم بحكم أنهم مواليه وبحكم أنهم ذوو الحق الشرعي في الإمامة لبيعة المسلمين لهم، ولأنهم من قريش، وابن حزم يأخذ بظاهر (الأئمة من قريش).
ولم يمنعه هذا التعصب من كلمة الحق (فيما جرى من الحروب في عهد يزيد.. راجع الروض الباسم لابن الوزير 2-36- 37 . وجوامع السيرة لابن حزم).
والحادي عشر: أن معتمد هؤلاء مجرد انبثاق المذهبين، والظاهري والباطني، من دلالة مفردتين متضادتين لغة، وهذا الانبثاق في التسمية لا يلزم منه أن يكون أحد المذهبين في حقيقته جاء ليقاوم الآخر (وإن كانت فكرتاهما متناقضتين).
والثاني عشر: أن الأقرب إلى الوهم أن يقال: لعل الباطنية جاءت لتقاوم الظاهرية، لأن أهل الباطن فسروا (يأجوج ومأجوج بأهل الظاهر.. انظر كتاب فضائح الباطنية للغزالي ص 58.. ولو فرضنا فرضاً بعيداً أن رأي ابن حزم في الإمامة تعصب لبني أمية ومقاومة للفاطميين في المغرب لما كان هذا دليلاً على أن الظاهرية نشأت لتقاوم الباطنية، لأن مسألة الإمامة ليست كل (الظاهرية)، ورأيه في الإمامة لا يتوقف على ظاهريته، بل يستطيع كل مجتهد (غير ظاهري) أن يخلص هذا الرأي؛ ووقوف ابن حزم عند ظاهر: (الأئمة من قريش) ليس ظاهراً أخذ به، وإنما كانت ظاهريته سابقة فصادفت نصاً في الإمامة، فطبقها عليه كما طبقها على غيره من النصوص.
والثالث عشر: أن احتكار التأويل الذي تذهب إليه الباطنية ينكره ابن حزم، ولكن مذهبه لم يقم على هذا الإنكار بدليل أنه (في كل أصوله ومسائله) ينكر التأويل الذي لا دليل عليه (بغض النظر عن معتقد صاحب التأويل نفسه).
وإذن فلم تنشأ الظاهرية لتقاوم الباطنية، ولم تكن مذهباً فرضته ظروف سياسية، وإنما كانت بواعث نشأتها ما أشرت إليه آنفاً.. وإلى لقاءٍ قريب إنْ شاءَ الله تعالى، والله المستعان.
** **
(محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عَنِّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين-