لقد استطاع أمبرتو إيكو أن يختصر لنا عوالم السرد في عبارته الشهيرة «إن السرد يشبه الغابة»؛ الأمر الذي يشي بعمق التجربة السرديّة التي أخضعته لهذا التشبيه، فقدّم لنا تلك العوالم السردية في بضع كلمات، مع ما تخبئه من دلالات عميقة إلى آماد متّشحة بمفاجآتٍ لا تنتهي، فـ» قراءة محكي ما معناه ممارسة لعبة نتعلم من خلالها أن نعطي معنىً للأحداث الهائلة التي وقعت أو ستقع في العالم الواقعي. إننا، ونحن نقرأ روايات، نهرب من القلق الذي ينتابنا ونحن نحاول قول شيء حقيقي عن العالم الواقعي.. تلك هي الوظيفة الاستشفائية للسرد»(1)، أليس الخطاب الروائي بشكل عام هو بنية لغويّة دالة، أو تشكيل لغوي سردي دال يصوغ عالمًا خاصًّا، تتنوّع وتتعدّد وتختلف في داخله اللغات والأساليب والأحداث والأشخاص، والعلاقات، والأمكنة والأزمنة، دون أن يقضي هذا التنوّع والتعدّد والاختلاف على خصوصيّة هذا العالم ووحدته الدّالة، بل يؤسّسها(2)، «فكما أن التجول في الغابة له طعم اللذة المبهمة، والمغامرة، والخروج عن العادي والمألوف، فإن التجول في العوالم السردية له نكهته الخاصة أيضًا»(3)، فإذا تجاوزنا ذلك فـ«هناك ما هو أعمق من ذلك، فإذا كان التجول في الغابة لعبة نتعلم من خلالها كيف نتبيّن طريقنا وسط فضاء بلا خريطة، فإن الأمر كذلك، في العوالم السردية»(4).
* * *
تلك إذن افتراش موجز أزعم بضرورته حول تلك المقولة، إلاّ أنّ على مهاد اليقين والقناعة شبه المطلقة بضرورة حيادية لغة النقد، وخلوصها من ربقة التعميم والتهويم، واقترابها ما أمكن من التوصيف الحاسم على نحو إبداعي موازٍ للنّص المنقود، بما يجعل من الفعلين؛ المنتج الإبداعي وعملية النّقد الجارية عليها تتوازيان في حركة الجمال لدى مثولهما في حضرة المتلقّي، بما يحقّق الإضافة لكليهما، آخذين بعين الاعتبار كذلك أنّ مجمل التّقاطعات والاتّفاقات بينهما هي جوهر العمليّة ووقود حيويتها، مع التّسليم بحسن نية النّقد، وتلمسه للأدوات المفضية إلى قراءة النواتج المتّسقة مع القراءة البصيرة.
إنّ عبارة أمبرتو إيكو = السرد يشبه الغابة، برأيي؛ تكتسب صفة النّص الموازي؛ لكنّها في المقابل – إنْ وضعت مسبارًا في عمليّة النّقد – سنجد أنّها تفتقد لحساسيّة الضّبط الذي لا يسمح للتّأويل أن ينفذ منه، أو أن يمضي في فضاء لا سواحل له، والعلّة في ذلك أَبْين من أن نصرف لبيانها وقتًا أو جهدًا، فالواقع أن تناول تلك الكلمة على نحو مباشر في سياق المشابهة لن يكون مقبولاً لانعدام وجه الشّبه المباشر ما بين الغابة والسّرد؛ ولكن لا مندوحة إذن من الجنوح للتّأويل لعقد المقاربة بينهما، وهنا تتجلَّى معضلة هذه العبارة، إذ إنّها تقف أمام متلقّيها كما لو كانت مرآة، يحاورها المطّلع وفق ما يملك من خيال وتصوّرات حول الغابة، وليس بمقدار ما في الغابة من موجودات، ويصبح حينئذ إيكو بعبارته هذه مجرد محرّض لاستنهاض خيال المتلقّي وتحفيز كلّ مستشعراته التأويليّة لعقد مقاربة بين ما هو مادي = الغابة، وما هو معنوي = السّرد، وهو فعل إنْ أحسنا الظَّن تجاهه فإنّ الشاعر ت. إس. إليوت يقف في الجهة المقابلة منه بعبارته القائلة: «إن الفن العظيم يثبت وجوده بطاقة إقناعه كفن وليس بما يضفي عليه من تصورات فكرية لم تجد طريقها إلى التعبير الأصيل «(5).
من الواضح أنّ عبارة إيكو لا سبيل إلى التّعاطي معها إلاّ من ثقب التصوّرات الفكريّة، وعلى هذا فقد تداعت عليّ صور من المقاربات التّأويلية بين السّرد والغابة، فأدنى هذه التصورات وأقربها تناولاً يتجلّى إذا نظرنا إلى الغابة بوصفها مسرحًا طبيعيًّا تتجاور فيها حيوات مختلفة، وتتنوّع فيه مظاهر الوجود النّباتي والحيواني، وعلى ذات القياس – السّاذج – يكون السرد، الذي يجمع في جوفه أنماطًا من الكتابة المتنوّعة، تبلغ قمّتها عند البعض في مظهر الرواية، ومن ذات منظر التنوّع تحتشد الرواية – في الغالب – بتنوّع الأحداث، واختلاف الشّخوص، وحركة الحياة الفوّارة. ومن الجائز إذن أن يكون التّشابه قائمًا على هذا الوجه على بساطته ودنو قطافه.
ولو نظرنا إلى الغابة من زاوية النّظر الشائع بوصفها مسرحًا للافتراس، فإنَّنا سنضطر إلى ليِّ عنق التّأويل قليلاً ليدخل معنا في الافتراضات باعتبار أنّ بعض الرّوايات أو المسرودات من القول تقدّم لنا أحداثًا دامية، وصراعات يستأسد فيها القويّ، ويخور فيها الضّعيف، وما أكثر ما قدّمته الرّوايات كنماذج لهذا النّوع من السرديات.
ويقودنا التّأويل أيضًا إلى المقاربة بين (الغابة) و(السرد/الرواية) على قاعدة التّوهان؛ فالغابة حين اتِّساع رقعتها، وتمدّد مساحتها ستكون متاهة توهان حين الدُّخول إليها بحيث يصعب الخروج منها دون دليل، والحال قريب الشّبه في بعض الروايات التي تقدِّم أحداثًا لا يكاد يلمها خيط، أو يعقد آصرتها مفهوم يفضي إلى وعي بمرامها، وهو تعقيد قد يكون ثنائيّ الوجهة؛ من حيث المعنى والأسلوب، وقد يكتفي بأحدهما دون الآخر، والمحصلة في الحالتين التباس لدى القارئ والمتلقّي.
ولن يعدم التّأويل كذلك أن يعقد المشابهة بين الغابة والسرد على اعتبار العطاء اللّامحدود، والثّمار المتنوّعة متى ما كان الوضع فيهما قائم على النّحو المرجو، فلو نظرنا إلى الغابة من هذه النّاحية فمن العسير أن نحدّد العطاءات التي تقدّمها للإنسانيّة، فأقل ما يمكن أن توصف بها أنّها رِئْات الحياة، فبمجموعها الخضري العريض تعمل على رفد الحياة بما تحتاجه في عمليّة تبادليّة تحفظ التّوازن المطلوب، وتصلح الاختلال الذي يحدثه البشر، هذا فضلاً عن كثير من الفوائد الماديّة التي تجنيها الإنسانيّة من وجود الغابة، والحال نفسه قائم في الرّواية اليوم، فالثّمار المقطوفة منها كثيرة وعديدة، إلى الحدّ الذي يذهب فيه البعض إلى القول إنّها مسرح كلّ الفنون، في إشارة إلى حضور كلّ أفنانين القول فيها، بما يجعلها طَبقًا إبداعيًّا يكاد يُغْني عن غيره من المشهيّات الأخرى، على نحو يساند الرّأي القائل بأنّ الرّواية ديوان العرب.
إنّ عالم السّرد فتنة، يتبارى القرّاء بكلّ درجاتهم بمساءلته، ومقارنته، ومقاربته باعتباره نصًّا مفتوحًا يقبل التّجديد وتعدّد القراءة؛ إنّها حزمة من الأسئلة الشّائكة.
فكلَّما كان السرد بعوالمه المتعدّدة قابلاً لكلّ ذلك كان أشبه بالغابة المكتنزة بكلّ المتغيّرات والمتّفقات التي تقبل القلق، والكشف عن المخبوء والمستتر، فكل سائح فيها يبحث عمّا يطيب له أو ينافره ما دام هناك عوالم تحيط به وتتمركّز في قاعه، فهي تعمل دائمًا على صدم آفاق انتظاره؛ لتجعل منه يكتشف كل مرّة عالمًا جديدًا مختلفًا في هذه الباحة السرديّة الموصوفة بعالم الغاب.
صحيحٌ أنّ النص السردي -غالبًا- نصٌ مفتوح؛ ولكنّه فاتنٌ مقلق، وهذا سرّ فتنته وقلقة وتعدّد أوجهه؛ ولكنَّنا دائمًا نبقى في كلّ الأحوال واقعين تحت سلطة النّص الذي يسفر بأشكال مختلفة عن ذاته، وهو سرّ أخر يبعث الدّهشة.
إنّ عبارة إيكو السّالفة تملك حقّ التّحفيز بأقصى طاقة ممكنة، وتحرّك الخاطر نحو مقاربات تأويليّة عديدة، وهو وجه المحْمَدة فيها، أمّا أنّها دالة توصيف يستدعيها النّقد ليحاور بها السّرد أو الرّواية تحديدًا؛ فإنّ فيها من التّعميم ما يفقدها هذه الصّفة (التحكيميّة)، ويترك بوصلة توجيهها بيد قارئها وليس بيد مبدعها أو ناحتها.
** ** **
(1) إيكو، ست نزهات في غابة السرد، مرجع سابق، ص 6.
(2) محمود أمين العالم، الرّواية العربية بين الواقع والأيديولوجية، (دار الحوار: دمشق، 1986م)، ص: 24.
(3) إيكو، ست نزهات في غابة السرد، مرجع سابق، المقدمة، ص8-9.
(4) المرجع السابق، ص:142.
(5) ت. س . اليوت، فائدة الشعر وفائدة النقد، ترجمة يوسف نور عوض، مراجعة جعفر هادي (دار القلم: بيروت، 1982م)، ص 86.
** **
- د. ساري بن محمد الزهراني