يقول عبد الله القصيمي: «إن الخروج من شيء إلى شيء، يجد الإنسان فيه دائماً معاناة ورهبة، إنه لهذا يهاب الموت ويهاب كذلك تغيير عقائده وأزيائه النفسية، إننا لو كنا أمواتاً وعرض علينا أن نصبح أحياء لوجدنا في ذلك مشقة ورهبة، ولكرهنا أن نصبح أحياء للسبب نفسه، أي خوفاً من التغير والفراق، فالموت نفسه وهو قمة المخاوف، ليس فيه ما يخيف سوى ما في أنفسنا من استعداد للخوف، فهو ليس مخيفاً في ذاته، بل في تقديرنا النفسي له». وأيضا يقول إيميل سيوران: «الحزن شهية لا تشبعها أية مُصيبة»، في الطب النفسي أيضاً نجد إحدى طرق العلاج، تهيئة المكان المناسب لأريحية النفس، ويعد الرسم أحد هذه العلاجات.
مما سبق يمكننا قراءة رواية مقتل دمية داخل إطار لوحة ألكسندرا التي رسمتها سارة وطوعت فيها (الروح - الضمير - الأنا) ليتشكلوا جسديا بهيئة دمية، حاولت سارة دفنها وإعادتها ولكن ليس داخل تابوتها، بل داخل إطار اللوحة التي ظلت ترسمها حتى أتمتها، وبانتهائها أعادت الجميع لأماكنهم المختارة مسبقا، وأحكمت إطارها؛ حتى تجمعهم جميعًا في لوحة واحدة.
جسدت الرواية هذا الجزء من الاضطرابات النفسية، متقلبة بين الخوف والشك واليقين والإنكار، معتمدة على بناءٍ سرديٍ متوازنٍ يبحث عن العلاج خارج جدران المستشفى، اشتغل عليه الجسد رغم التناقضات والصدامات التي حاصرته في مثلث الروح والضمير والأنا، ليعيش هذا الصراع الوجودي ما بين الالتباس والتخاطر الفردي والجمعي الذي تكفلت به هذه العناصر الثلاثة، فكان نتاج ذلك أن تعيش البطلة عدة أدوار متناقضة تتقلب فيها بين دور التأنيب تارة ودور المغدورة تارة أخرى، متجسدة بهيئة دمية أو بأي جسد من أجساد أبطال الرواية، تتشكل على هذه الهيئات المتعددة لتوقظ ما في الجسد الآخر (سارة) من اختلاجات نفسية فيعيش هذا الجسد المتشكل نفسيًا؛ الخوف والاضطراب والشعور بالغدر.
يحضر أيضا التخاطر الفكري حين يتمسك العقل اللا واعي بالفكرة ويجسدها على أرض الواقع، بل يمنحها هي الأخرى جسدًا ويلبسها الكثير من التفاصيل اعتمادًا على مخزون العقل الباطن من مخاوف بقيت مدفونة إلى أن أتت اللحظة المناسبة فتجسدت وأصبحت راو آخر يشارك أبطال الرواية تفاصيل حياتهم، ويشارك القارئ لعبة الاختطاف التي بات الكل مشارك فيها بحثًا عن مخرج احتفظت بسره الدمية حتى نهاية المطاف، وهي لم تكن سوى فكرة تعلقت بذاكرة المتلقي، ورحلت قبل أن تلتصق بجسد سارة وتغادرها في النهاية بوصفة علاجية ناجحة اكتشفتها بنفسها من خلال التجربة التي عاشتها واستنادًا إلى الماضي الذي ظل يطاردها، وفي ظني إن كُتب للكاتب إكمالها فنحن موعودون برواية جديدة أو جزء آخر من هذه الرواية لا يقل جمالًا وروعة عن شقيقتها الكبرى.
بينما تولد هذه الرواية داخل الوطن بحكم أن البطلة سعودية، إلا أن انطلاقتها الحقيقية وتشكلها الحدثي تم خارج اطار الوطن، يمكننا قول ذلك رغم التشوهات التي عبثت بتكون الحدث داخل الوطن وكانت فيما يبدو مقصودة من الكاتب ولم تسرد إلا بعد ميلاد سارة وتشكلها بصورتها الجديدة خارج رحم الوطن بعيدًا عن الأم والأخ الظالم والمجتمع الأكثر ظلمًا، الأمر الذي يجعلنا ننظر للرواية على أنها ذات وجهين وجه بقي داخل الوطن، وهو ما أُخفي أو حاولت سارة إخفاءه، بهروبها إلى سويسرا والتنصل منه، ووجه ظهر خارج أسوار الوطن وهو ما أخبرتنا الرواية بكل تفصيلاتها.
الأمر المهم الذي ينبغي التوقف عنده هو الدور الكبير الذي لعبه الخيال من خلال مثلث الجسد والروح والضمير والأنا الذي تمثل في التخاطر عن بعد والتخاطب الآني ما سمح بتعدد الأصوات واختلافها واستلامها زمام الحكي ونعني بذلك صوت الروح والضمير والأنا، عندما استطاعوا ببراعة تجسيد مشاعر الحب واليأس والكره، كان لكل منهم طبقة صوتية مختلفة يتحكم فيها بإتقان عجيب ويوجهها لمن يريد في الوقت الذي يختاره، ويستخدمها أيضاً للتخلص ممن لا يريد، أو للهروب من بعض المواقف والاستنتاجات التي يتوصل إليها القارئ. هذه الأصوات تواجه جسد سارة أثناء سير أحداث الرواية وتتفاوت ضراوتها حسب الحدث، وحين يحضر جسدها الحقيقي في النهاية يواجه نفس الأصوات من أجساد أخرى ولكن بطريقة مختلفة من خلال اقحامها في أفكار معينة لا تخلو من التناقض، أو اشغالها بتعدد الخيارات التي يصعب تحديد إحداها كخيار مناسب يُسهل عليها اتخاذ القرار المناسب.
من الأشياء الرائعة التي تميز بها هذا العمل الإبداعي، جمالية المكان وحضوره القوي في كل أجزاء الرواية وهو ما يريح النفس ويدفعك للاستمتاع والاستغراق أكثر في القراءة وإن كان ذلك يبدو مقصودًا من الكاتب ما يعني أن حضور المكان بهذا الزخم مرتبط بالعمل بحكم أنه يعد أحد طرق العلاج المهمة في الطب النفسي، نجد أنه وظف بما يخدم الرواية عندما أصبح متنفسًا تتلاقى فيه الأصوات الثلاث ة، الروح والضمير والأنا لتعصر مافيها وتُخرجه في مواجهتها المستمرة مع جسد سارة، الأمر الذي يجعلنا نقول أن المكان والزمان اللذان نحتا الصورة الجمالية، هما سبب الإيقاع بجسد سارة واستخدما كعلاج نفسي، وإن حدث ذلك بطريقة غير مباشرة.
من الأشياء التي تستحق التوقف والحديث عنها استمرارية شحنة الطاقة السلبية في جسد سارة التي عبرت معها حدود الوطن وظلت ملتصقة بـعباءتها ونقابها وخوفها من الجميع والشكوك التي ظلت تطاردها وبقيت كما هي حتى آن الأوان لتبخرها ومغادرتها في الوقت المناسب. كذلك لعبة الانشقاق الزماني وأعني بذلك القذف الزمني المتبادل الذي لعب دوراً حاسما أيضاً، جسده المؤلف ببراعة حين تجاهل عن عمد سبب الرحيل والابتعاد ليعود له لاحقًا ساردًا تفاصيله واسبابه وإن لم يفصل كثيرًا في هذا الشأن مكتفيًا بالقليل الذي زرعه داخل السطور الأساسية لرحلة البطلة خارج الوطن. من الأشياء الجميلة أيضاً التي استوقفتني في هذا العمل اللغة الشاعرية حين تتحدث البطلة سارة عن الأم والوطن، نجد ذلك في الصفحة (87-88)، وأيضا تضمينها الكثير من الرومانسية المنحوتة ظهرت في أجزاء كبيرة من الرواية.
في النهاية ينبغي القول، أن المصير والخيارات المتعددة التي أعطيت للانا والضمير والروح، وجسدتها وانطقتها ومنحتها الإحساس بالأضرار، وظهر كأنها تستحضر من العقل الباطن كل الماضي المبطن؛ لتعيش صراع الخيارات المقبلة عليها، التي أوقعت فيها الجسد، كل هذه الصراعات تجعلنا نقول صراحة، إننا أمام عمل إبداعي سعودي مختلف يستحق التوقف أمامه والتحدث عنه كثيرًا.
** **
- حضية خافي