أهي حقيقة أم خيال أم أضغاث أحلام؟
رائحة قوية تملأ المكان وكثير من الأشباح البيضاء، قصيرة وطويلة، ممشوقة وسمينة، قريبة مني، تحيط بي، تطوقني كأنني فريسة تحاول الخلاص، وأشباح أخرى على مسافة أبعد كأنهم جنود على أهبة الاستعداد... أو قوات تدخل سريع تنتظر الإشارة فقط لتشارك في الانقضاض عليّ..
أحسست بنصل المبضع الحاد يبدأ عمله في أديمي... تباً لمعذبتي، لا تفتأ حتى هذه اللحظة تتفنن في التنكيل بي. لا أعرف سبباً وجيهاً لاختيارها هذا النوع من التخدير الجزئي، لا علينا، بالتأكيد ستشعر هي أيضاً ولو ببعض الألم الذي أشعر به وإن كنت آمل أن تزداد عليه ألماً نفسياً بالرؤية الضبابية المخيفة للجرّاح وقومه، بل أحسبها بهذا التخدير الذي اختارت لا بد أن تكون سامعة لأصواتهم وأوامرهم وأزيز آلاتهم بدون أن تستطيع إبداء أي ردة فعل أو شكوى!
يا لألمي الرهيب.. وضع الطبيب رقاقة صلبة تحت فقراتي لتصبح كتلة واحدة.. ماذا تبقى في جعبتي للدعاء على معذبتي جزاء كل هذه المعاناة؟... تثبيت وتربيط بمسامير دقيقة، أهذه غرفة عمليات أم ورشة حدادة، عصرية وأنيقة وغاية في النظافة والترتيب؟
لاحت مني، رغم الألم الشديد، ابتسامة صفراء متهكمة، لتذكرني بمكانتي وحقيقتي التي طالما حاولت نسيانها والتمرد عليها وذلك بالتسبب في نوبات ألم شديدة لحليمة، انتقاماً ونكاية بها وبالذات مع وهن عظامها وتقدمها في العمر.
شعرت ببعض الوخزات بطيئة.. ضعيفة ثم ازدادت قوتها تدريجياً وتعجبت ماذا عساه يكون مصدرها وقد ابتعدت عني عصابة المعاطف البيضاء.
تثاءب ضميري وهو يتمطى بكسل ثم قال: «نعم، أنا المرسل مع التحية».
«صح النوم!»
«كنت آمل في عودتك لصوابك بدون تدخل مني».
«إنما للصبر حدود... يا حبيبي!»
«أهذا وقته؟.. غناء ووناسة في حجرة العمليات؟»
«حليمة اللئيمة عذبتني منذ صباها.. منذ أن أدركت أنها تستمتع بحضور المناسبات والزيارات مع الأهل والصديقات.. وكأن بهجة اللقاءات وتمام الأناقة لا يكتملان إلا بعدوي اللدود، الكعب العالي!»
«المسامح كريم».
«صدقني.. حاولت كثيراً. لم أبدأ في مشروع انتقامي إلا بعد إرسال تحذيرات متكررة، ولكنها طوال عمرها كانت تتجاهلها وتضرب بها عرض الحائط ولسان حالها يقول إذا لم يعجبك فلتشرب من البحر، ولأن البحر كان بعيداً وهي تعي ذلك، وقد استمرت بالضغط عليّ ليس فقط بكعبها اللدود الذي كان يصاحبها في الحل والترحال والعمل والمنزل بكل الأشكال والألوان والماركات، فقد نفد صبري حقاً حينما ازداد وزنها.. تخيل هي تستمتع بما لذ وطاب وأنا المسكين تتهمش فقراتي وتلوذ ببعضها البعض في عناق سرمدي وقد بلغت أشد درجات الخشونة».
«لا بد أنك سعيد الآن بعدما نفذت خطة الانتقام بحذافيرها بكل براعة».
«أبداً.. بالعكس فقد فقدت سيطرتي عليها، هي لن تشعر بأي ألم بعد اليوم... لم يعد لي نفوذ أمارسه عليها، أشعر وكأنني مومياء محنطة، لن أستطيع أن أتحرك مطلقاً.
ليس موتاً، مازالت دمائي دافئة تنبض بالحياة..
ولكني أجبرت على السكون، كمن يحال على التقاعد أو الاستقالة بدون رغبته..
إذن هو الاستغناء عن عملي وخدماتي.. هكذا ببساطة بعد كل هذا العمر؟».
«هون عليك ولا تحزن، لن تستطيع السيدة حليمة الاستغناء عنك أبداً» وبابتسامة حاول ضميري جاهداً أن يكسوها بعضاً من حنان أو تهكم، لا أعلم! فقد منعني الإنهاك والشفقة على نفسي أن أتبين أيهما كان يقصد، أضاف: «هل جننت لتعتقد ذلك؟ من الذي يستطيع الاستغناء عن جزء من جسده مهما كان صغير الحجم أو كان مجرد الأصبع الكبير في القدم مثلك!».
** **
نادية عبدالوهاب خوندنة - كاتبة ومترجمة أدبية