في كل آداب الدنيا نصوصٌ أدبيةٌ تتبوأ مكاناً خاصاً في تاريخ الأدب، وفي عقول الدارسين، فتكون موقعَ عنايتهم، وموضع اهتمامهم ليقوموا في درسِها وتأمّلها طويلاً .. ومن النصوصِ التي حظيت باهتمامِ العربِ في جاهليتهم وإسلامهم لاميةُ العرب. وما أدراك ما لامية العرب! هي تلك القصيدة التي صدحَ بها الشاعرُ البليغُ واللصُّ الفاتكُ شمس بن مالك الشنفرى، وجاءت على بحر الطويل وروِيِّ اللام. ومطلعها يصكُّ أذن السامع، ويهزّ المشاعر؛ إذ يعلن الشنفرى من البيت الأول مخالفتَه لقومه ونبذَه لهم، فيقول:
أقيمُوا بني أمّي صدورَ مطيِّـكم فإني إلى قومٍ سواكُم لأَمْيلُ
وحياةُ هذا الشاعر الشنفرى حياةٌ غامضةٌ يلفُّها كثيرٌ من الشكّ والتناقض، وتحيط بها خرافاتٌ عربيةٌ قديمةٌ بعضها لذيذٌ في أذن المستمع. وهي من ذلك النوع الذي درجت الشعوبُ على حياكتها وروايتِها حول أبطالِها. وهذا العربي المتفرد أحدُهم!
وتمتد الأساطير العجيبة لتحيط باسمه وقبيلته وحياته كلها...حتى حملِ أمّه به؛ فقد روي أنها رأت في نومِها من قال لها : إنك ستلدين ذا باسٍ وكرٍٍّ ومراسٍ ... وأذىً للناسِ ... فولدته !. وموته كذلك أسطورةٌ من الأساطير أيضاً.
ومع كل ما يُروى ويقالُ عنه من معلوماتٍ مضطربةٍ تدفعُ به ليكون شخصيةً خارج التاريخ، إلا أننا نجدُ له هذه القصيدةَ العجيبةَ الشامخةَ التي تقفُ وسط آدابنا العربية كالجبلِ الأشمّ صلابةً وثباتاً، أو كالنخلةِ السّحوق طولاً وعلوّاً.. لقد عشِق العربُ هذه القصيدة، وأحبّوها حباً جماً، حتى لقد عدُّوها إرثاً عربياً مشتركاً لكلِّ العرب في الجاهلية فسمّوها لاميّة العرب. وكان هذا أواخرَ الجاهلية وقبيل الإسلام كما يغلبُ على الظن. وقد روي أن أمير المؤمنين عمرَ بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: (علِّموا أولادكم لاميةَ العرب؛ فإنها تعلِّم مكارم الأخلاق).
وهنا حُقّ لك أن تعجب - قارئي العزيز - فتسأل: كيف تكون هذه القصيدةُ معلمةً للأخلاق وجامعةً لكثير من القيم، مع أن قائلها لصٌّ صعلوكٌ فاتِكٌ، لم يكد يبقي على أحد ممن حوله، حتى لقد روَوا أنه قتل زوجتَه وقتل أباها ؟!!... وتفسيرُ هذا يأتي عند فهمنا نظرةَ العربِ القديمة إلى الُّلصوصيّة والشّجاعةِ والقتالِ والغارات... وهي نظرة قديمةٌ تقوم على المغالبةِ! هذّبها الإسلام وشذّبها، وأخذ بها لتكون الغايةُ من الشجاعة العدلَ والحقَّ وليس الظفرَ والاستيلاءَ والغلبة... ومما يؤسفُ له أن هذه النظرةَ بقيت دهراً عند بعض العربِ بعد الإسلام، حتى بلغ الأمرُ أن يُمتدح الشجاعُ الظالمُ، ويذمّ الفقيرُ ذو الصنعة المحبُّ للأمن!
روي أن إمامَ الّلغة والرواية عبدَ الملك بن قُريبٍ الأصمعي (ت 206 هـ ) قال في حديثٍ له مع الخليفةِ هارون الرشيد ( ت 193 هـ ) : ( علِّموا أولادكم لاميةَ العرب؛ فإنها تطلق الألسنةَ بالفصاحةِ، وتزيد في العقل، وفيها ثبْت كلام العرب ! ) ، وذكرَ الخليفةُ هارون الرشيد نفسُه أن والدّه أبا عبد الله المهدي ( ت 169 هـ) كان يحثّه على حفظِها، وهو صغيرٌ، ويأمر معلّمه بتحفيظِه إياها.. فكان كلّما استنشده والدُه منها شيئاً فأنشدَه هارونُ قبّله أبوه وضمّه فرِحاً!
إذن، أين موضعُ السرّ في هذه القصيدة؟ السرّ هو أن هذه القصيدة الخالدة عرضت، وجمعت مجموعةً من أخلاق نبهاء الرّجال في الجاهلية والإسلام كالمواساةِ والإيثار والبعد عن البخل، والشره وطول الصبر على نوائب الدهر، وعلى الجوع والعطش، والحرصِ على القوة والفروسية والشجاعةِ، وقوة الفراسة، ودقة الحس والشعور وصلابةِ القلبِ في المواقفِ الصعبة.. وكثيرٌ من هذه الأخلاق يجلّها، ويعظّمها كل أبٍ، ويودّ تعليم ابنه إياها. ولو كانت القصيدة قد جمعت إلى هذه الأخلاقِ العدلَ والإنصافَ لكانت أعلى شأناً وأقوى سلطاناً .. وكلُّ ما ذكرتُه فيها هو من صفاتِ الصعاليك في الجاهلية وأخلاقِهم. وهم جمعٌ من الفرسان الشعراء المنبوذين ومنهم هذا الشنفرى وعروةُ بنُ الورد وتأبط شراً وغيرُهم.. ومع أن هؤلاء عشقوا الوحدة والبعد عن الناس، إلا أنك تجد أثناء القصيدة وخلالها أبياتاً تدل على من المسامحة والإيثار ونزاهة النفس. ففي الإيثار والبعد عن الجشع يقول:
وإن مُدّت الأيدي إلى الزاد لم أكن بأجشعهم إذ أجشع القوم أعجلُ
وفي الصبر والاعتزاز بالنفس يقول:
وفي الأرض منأىً للكريم عن الأذى وفيها لمن خاف القِلى متعزّلُ
لعمرُك ما في الأرض ضيقٌ على امرئٍ سرى راغباً أو راهباً وهو يعقلُ
وفي الصبر والتحمل تراه يقول:
أُطِيلُ مِطال الجوعِ حتى أميتُه وأضربُ عنه الذكر صفحاً فأذهلُ
واستفُّ تربَ الأرض كيلا يرى له عليَّ من الطَّول امرؤٌ متطوّلُ
وهذه الشخصية تشبه على نحوٍ ما شخصية روبن هود ( Robin Hood ) في التراث الشعبي الإنجليزي الذي كان خارجاً على القانون، وكان يختبئ مع صحبه في غابات شيروود ( Sherwood )؛ فيغير أحياناً على الأثرياء تحقيقاً للعدل ونصرةً للمظلومين عنده.
أما في الجانبِ الآخر من حيثُ اللغة فاللاميّةُ في مكانٍ عالٍ من الجزالة والقوّة، بل لا أبالغُ إن قلت إنها إحدى مفاتيحِ الأدبِ الجاهليّ، وسجلاته اللغوية؛ فقد حشيت لغةً وجمعت صوراً من البادية مع بلاغةٍ وقوة تشبيهاتٍ وجزالة ألفاظٍ يطول عدّها هنا.. وهي من خير ما تُراض به لغة الناشئين لتربيتهم على حبّ العربية الجزلة الصلبةِ، ومعرفة بلاغتِها ومفرداتِها .. على أن تُسبقَ في التعليمِ بنصوصٍ أسهلَ وأيسر؛ ليتمكن الطالب الناشئ من بعدُ من اقتحام عرينِها المدهش.
ولتستمتعَ بهذه القصيدة ينبغي لك أن تتخيّل أنك رفيقُ الشنفرى في البيداء الواسعة. وهو رجلٌ جلدٌ، لا يكاد يستقرُّ على جنبٍ واحدٍ، وحوله ذئبٌ ونمرٌ وضبعٌ، وفي وسطه سيفٌ لامعٌ، وعلى كتفه قوسٌ صفراءُ قد رصّعت بعقدٍ من الجلد وأربطةٍ من القماش الملون، يرمي عنها سهاماً نافذة لا تكادُ تخطئ الفريسة. ويركض وراء الظباء المسرعة، ويجوعُ حتى ينسى الجوع، ويصبرُ على الحرّ والبردِ القارس. ولا تكاد تسمع خطوَه إذا مشى، فكأنه الريح ترى أثرَها ولا ترَاها ... بهذا تدخل عالم الشنفرى الغريب.
جاء هذا كله في بالي، ونحن نحتفل باليوم العالمي للغة العربية. وقد يقول قائلٌ اليوم: ما لنا ولها في عصر الشبكةِ الإلكترونية؟ فأقول: هذا موضع المثل: ليس هذا بعشِّكِ فادرجي! إن هذه اللامية مدخلٌ لفتقِ الّلسان بالعربيةِ، ومسلك لتذوّقِ الشعرِ القديم والأدب، وصراطٌ لتكوين قريحةٍ لدى الناشئ والطالب تمهّد له الصعودَ إلى سماءِ النصوصِ القديمةِ، وأعلاها بلا ريبٍ نصّ القرآن المعانق للسّحاب، والذي من حلّق إليه بجناحٍ من اللغة كجناحٍ العُقاب، فاز بالفهم ومن فاز بالفهم وورثَ الخشيةَ والخشوع والبركة والعلم، وذا غايةُ الساعي ورغبة الآمل. والأدبُ مهما كان نوعُه يهذب النفوس، ويسمُو بها. ومن ذاق عرف، ومن لم يذق لم يعرف !، وأستغفر الله !.
** **
د. أحمد بن محمد الدبيان
للتواصل مع الكاتب arabic.philo@gmail.com