«شهر زاد هي أنا»
جون بارث
جون بارث John Simmons Barth ( 1930 ) أديب وقاص مبدع وناقد أكاديمي مجدد في النقد والتفكير في تطوير السرد الما بعد حداثي .
في سلسلة حديثنا عن تطور رواية ما بعد الحداثة وجذورها الفنية المتأثرة بسرديات ألف ليلة وليلة ، سبق تحدثنا عن ادجار ألان بو، وفي هذه الحلقة نتحدث عن مبدع آخر تأثر في سرد شهرزاد في ألف ليلة وليلة وتأطيرها السردي المتميز وقد ساهم بارت في تطوير رواية ما بعد الحداثة .
مزايا جون بارت
تميز بارت في قلقه على فن القص الناضب وحساسيته للإبداع، ورؤيته النقدية النافذة وشعوره كمبدع وناقد بجفاف الإبداع السردي وتحفيز المتلقي ، ورؤيته النقدية الصائبة لإعادة تجديد السرد والعودة إلى المنابع الأصيلة مثل سرد شهرزاد في ألف ليلة وليلة.
حياته وإنجازاته
ولد جون بارث في مدينة كامبريدج ولاية ماريلاند الأمريكية، Cambridge, Maryland تخرج في مدرسة كامبريدج الثانوية في عام 1947، حيث كان يعزف على الطبول ويكتب لصحيفة المدرسة. اطلع على «النظرية الأولية والتوزيع الأوركسترالي المتقدم» في جوليارد Juilliard حصل على شهادة البكالوريوس في الأدب من جامعة جونز هوبكنز عام 1951 Johns Hopkins University كما حصل إلى الماجستير من نفس الجامعة عام 1952. وكانت أطروحته «قميص نيسوس» في الجامعة.
تزوج بارث بهارييت آن ستريكلاند Harriet Anne Strickland في 11 يناير عام 1950. ونشر قصتين قصيرتين في العام نفسه، نُشرت إحداهما في مجلة جون هوبكنز الأدبية للطلاب والأخرى في مراجعة هوبكنز.
عمل بارث استاذًا في جامعة ولاية بنسلفانيا Pennsylvania State University, من عام 1953 حتى عام 1965، وتزوج زوجته الثانية شيلي روسنبرج Shelly Rosenberg
انتقل للتدريس في جامعة ولاية نيويورك في بوفالو State University of New York at Buffalo من 1965 حتى 1973. في تلك الفترة تعرف على «أدب القصة القصيرة الخيالي» للكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، Jorge Luis Borges الذي ألهمه في كتابة مجموعته « ضائع في منزل اللهو».
بدأ بارث لاحقًا بالتدريس في جامعة بوسطن كأستاذ زائر في 1972 - 1973 وفي جامعة جونز هوبكنز من 1973 حتى تقاعده في 1995.
أعماله الأدبية
ألف بارث أول كتبه «الأوبرا الطافية» The Floating Opera و»نهاية الطريق The End of the Road, روايتان واقعيتان تناقش بعمق مواضيع مثل ( الانتحار في الأولى والإجهاض في الثانية). ثم كتب رواية ما بعد حداثية postmodernism. وهي «عنصر عشبة الأبله - عامل الأعشاب» The Sot-Weed Factor وتأتي رواية بارث «جايلز الفتى العنزة» Giles Goat-Boy كرواية خيال تأملي تقوم على تصور الجامعة ككون. يكتشف جايلز، وهو صبي تربى كماعز، إنسانيته ويصبح منقذًا في قصة قُدمت على هيئة شريط كمبيوتر يُقدم إلى بارث، الذي ينفي أن يكون ذلك عمله.
وفي سياق الرواية ينفذ جايلز جميع المهام التي حددها جوزيف كامبل في روايته «البطل بألف وجه». واحتفظ بارث بقائمة مهامٍ ملصقة على حائطه أثناء كتابته للكتاب. وطور بارث مجموعة قصص قصيرة بعنوان «ضائع في منزل اللهو « Lost in the Funhouse (1968) ، ثم كتب مجموعة الرواية القصيرة «كيميرا - شيميرا»Chimera ذات أسلوب ما ورائي أكثر من الروايات السابقة، إذ تقدم عملية الكتابة والإنجازات على هيئة سبعة اقتباسات متداخلة. شاركت هذه المجموعة جائزة الكتاب الوطني الأمريكي للخيال ثم ألف رواية «رسائل» LETTERS (1979)، والتي يتواصل بارث مع شخصيات من كتبه الستة الأولى.
وفي روايته لعام 1994 «كان يا مكان: الأوبرا الطافية» A Floating Opera, reuses stock characters,، يعيد استخدام الشخصيات الوضعية، والمواقف الوضعية والصيغ.
عشقه لشهرزاد وسرد حكاياتها
المتأمل في إعجاب جون بارث بشهرزاد وسردها القصصي يجده عائداً لعدة أسباب من بينها :
1 - أسلوب واستراتيجية سردها المعتمد على حكاية الإطار السردي .
يوضح جون بارت العاشق لسرد شهرزاد انه « لم تكن حكايات شهرزاد البتة ما أغراني وسلاني بقدر ما فعلت ذلك الرواية نفسها وظروف الحكي الاستثنائية أي شخصيه شهرزاد ووضعيتها وعرف التأطير السردي «.
ويؤكد أعزيزة ( 2018 ) أن إعجاب بارت بالليالي العربية « يفوق إعجابه بباقي الأعمال الأدبية الفائقة في أدب التأطير الحكائي، ومرد ذلك البراعة الفنية التي صممت بواسطتها شهرزاد إطاراتها السردية « ( ص 21).
وبارث معجب منذ سن مبكرة بفن التراث الشرقي يقول « إن ولعي بشهرزاد قديم مستمر ، عندما كنت طالبا مبتدئا في الجامعة كنت ادفع قسطا من نفقات تعليمي عن طريق تنضيد الكتب في مكتبة الأدب الكلاسيكي بجامعة جونس هوبكينز ، وكانت المكتبة تتوفر على رفوف متراصة من الكتب المتواجدة بمعهد الدراسات الشرقية ، وقد كان مرخصا للطالب أن يتيه لساعات في تلك المتاهة العظيمة وان ينهل حتى الثمالة من قراءة نصوص السرد ، لقد غدوت من ثم مفتونا بسلسلة الحكايات وبالمجموعات القصصية العظيمة على وجه الخصوص من مثل محيط القصة Ocean Story The المكون من عشرة مجلدات ضخمة لصاحبها سوماديفا Somadeva وألف ليلة وليلة ترجمة بورتن Richard Burton في سبعة عشر مجلدا ..وغيرها.
ويؤكد بارث قوله « وإذا ما عزوت العلة التي جعلتني كاتبا لشيء ، فلن يكون سوى هذا الهضم المتمثل لتلك المأدبة السردية الساحرة العظيمة « ( ص 17).
ومع اعتراف بارت بأنه معجب بأساليب سرد الحكايات الأخرى مثل حكايات كانتربري Contorbury Tales وأعتبرها حقا عطاره السردي الذي يتمحور حول رحله الحج إلى مدينة كانتربري صورة مجازية ممتازة إن لم نقل جليلة مستمدة من الواقع، باعتبارها رحلة خلاص ولكن لم يحقق بها شيئا يذكر بعد إثباتها، وكما يعتبر بارث القصة على إطار للكتابة بوكاشيو جديرة بالاهتمام بحكم أن لجوا عشره رجال ونساء إلى الريق وطردهم الحكايات.
ويشير اعزيزة إلى أن بارت معجب بالحكايات الإطار الديكاميرون للأسباب نفسها الثاوية خلف إعجابه بالقصة الإطار لكتاب ألف ليلة وليلة، فكلتا الحكايتين ترمزان إلى العلاقة القائمة بين الحياة والموت وفعل الحكي . لكن بارت يرى رغم ذلك أن قصه شهرزاد تتفوق على نظيراتها الأخرى من جميع النواحي، وهو يعتقد أن استعمال التأطير الحكائي بصفته استراتيجيه شرقية أكثر جمالية في الليالي من أي مؤلف آخر،» لأن ما لفت انتباه بارث هو الطبيعة القيامية المرتبطة بمقام « احكي أو موتي « الذي وضعت فيها شهرزاد ، ويعتبر ذلك هو وقوة الإبداع التي لا تنضب لديها ، أضف إلى ذلك شجاعتها ودهائها وبراعتها الفنية وكذا معرفتها الشاملة.
2 - ذكاء وثقافة شهرزاد الواسعة :
يقدر بارث موهبة شهرزاد الفطرية وتمكنها من الموروث الثقافي، ويعطي مثالا على ذكاء وثقافة شهرزاد من خلال سردها لقصة تودد فيقول : « إن هذه المرأة الذكية على سبيل المثال لا الحصر عندما تحكي حكاية الجارية تودد، هذه الجارية الجميلة المثيرة والمثقفة التي تتغلب على جميع خبراء الملك ببتمكنها من علم النحو والشعر وأصول الفقه والتأويل والفلسفة والموسيقى والرياضيات والقرآن وتفسيره والهندسة والطب والمنطق والبيان والإنشاء والرقص حتى قواعد الجنس، فهي تعطينا فحصا شفهيا كاملا لمدة 27 ليلة (وهي الليالي من 436 إلى 462 ) وكل ما تعرفه وتتقنه تودد يعتبره جزءاً مما تعرفه شهرزاد نفسها ، فموهبة شهرزاد الفطرية وتمكنها من الموروث الثقافي ومعرفتها الموسوعية العريضة كلها سمات تقوى إعجاب بارث بها «.
كما يعجب بارث بأسلوب التشابك في سرد شهرزاد وفي البنيات الهندسية المركبة لهذا السرد وقدرتها على صياغة حكايات محبوكة السرد تتجاوز فيها وضعيات محفوفة بالمخاطر .
3 - العلاقة مع المتلقي وإرضاؤه وقدرة شهرزاد على حل المشكلة بالاستمرار بالسرد .
ونظرا لأن بارث قاص وسارد وناقد أكاديمي يعرف المعاناة الدورية مع الجفاف الإبداعي، فهو يعتبر وضعية شهرزاد ذات الدلالة القيامية العميقة ، رمز تخوف الكاتب من فقدان طاقته الإبداعية ، إن موهبة شهرزاد كما يقول بارت مهددة على الدوام إذ لا يكفي إرضاء الملك شهريار مرة أو مرتين ومن ثمة فإن قيمة حياتها مرتبطة دائما بقيمة حكايتها الموالية، فالمسألة بالنسبة لها على الدوام مسالة حكي أو موت «.
وبارث لا يتمنى شيئا أفضل من أن ينسج مثل ما نسجته ( شهرزاد ) ابنة الوزير الفذ طوال ما تبقى من ليالي عمره ، حكايات ضمن حكايات من حكايات.
فبارث يذكرنا مرارا وتكرارا بأن السرد المتواصل للحكايات على مدار تلك الليالي جسد قضية حياة أو هلال بالنسبة لشهرزاد .
ولهذا يعتبر اعزيزة أن شهرزاد هي مصدر إلهام بارث ورمز لهمومه وانشغالاته الإبداعية ، لان وضعيتها في منظوره تخصها وتخص كل راوٍ في الآن نفسه ، ما لسبيل إلى إرضاء المتلقي أكثر من مرة ؟ وبالنسبة لبارث فان علاقته بشهرزاد كراوية مع الملك شهريار « ناقدها المطلق « هي تلك العلاقة المرعبة والملهمة في نفس الآن التي تقض مضجع كل فنان في علاقته مع متلقيه . فقد يحدث في أي لحظة أن يعجز الفنان عن إمتاع متلقيه وحينئذ فليس بمجد أن تكون قد حكيت له حكاية واحدة جميلة أو مائة حكاية وحكاية جميله « ( ص 23) .
إن جون بارث أحب بل عشق شهرزاد في سردها ، ويقول « إن شهرزاد هي أنا « استمر في حبه لسردها في أكثر أعماله ، لدرجة أن زوجته - ناقدته المفضلة - قد تدير عينها وتقول معجبة « أشهرزاد مرة أخرى ؟! « وإعجابه بشهرزاد يعتبره بارث « مسألة كيمياء شخصية «.
وفي الحلقة القادمة سوف نتحدث عن أسلوب بارت في رواياته والتي استفاد من سرديات شهرزاد وتبناه كأسلوب وطريقة سرد في أعماله القصصية ليدشن هو الآخر رواية ما بعد الحداثة .
** **
هوامش
1 - الحسن بن اعزيزه ، محاكاة جون بارت لشهرزاد : ألف ليلة وليلة في المتخيل الأمريكي ما بعد الحداثية 2017
2 - الوكيبديا https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AC%D9%88%D9%86_%D8%A8%D8%A7%D8%B1%D8%AB
Chmq2012@gmail.com
** **
- ناصر محمد العديلي