حسن اليمني
العطاء هو جودة الإنسان وقيمته في الحياة وبعد الوفاة وبقاء للأبد، والعطاء هو كرم النفس وعظمتها، والعطاء هو الغنى الغني الذي يشبع رغبة التملك، فليس للإنسان إلا ما قدم وأعطى.
بعد أن أغلقت «كورونا» حلقات التجمع الأسري في مجتمعنا السعودي المتلاحم ببعضه بأواصر القربى ربما شعر كثير منّا بشيء من إحساس الغربة والوحشة حين انكفأ كل منزل ومسكن على نفسه، وقد كانت البدايات صعبة للغاية حين حُظر التحول وقُنن الخروج وأغلقت المساجد والمدارس وأجهزة الخدمات، وبفضل من الله وكرمه أن هيأ لنا وسائل تواصل افتراضي إلكتروني فكانت نقلة نوعية حدثت في المجتمع بشكل سلس ومرن أعطتنا قفزة نحو عالم افتراضي كشف لنا قيمة العلم والتقنية وضبط حياتنا اليومية وقضاء حوائجنا بطرق وأساليب مبتكرة ربما لم يشعر بها إلا من تجاوز الخمسين من عمره.
حين أتذكر اول صاروخ خرج من أرض العراق سابحاً في الفضاء وصافرة الإنذار تلج سماء الرياض وكنت ساعتها في تقاطع شارع الملك عبدالعزيز مع شارع الملك عبدالله عند الإشارة المرورية وأصحاب السيارات حائرون مرتبكون هل يقفون عند الإشارة أم يمضون وكيف والكل من كل اتجاه يرى أنه الأحق حتى تكدست السيارات وسط التقاطع بصورة كوميدية ساخرة، فالكل يقبض ابتسامة تخفيها الحيرة والارتباك بشيء من لا أقول الخوف ولكن أقول الحرص والحذر المخلوط بفرك العقل عن مخرج وحل لموقف كهذا استجد بلحظة لم يستوعبها العقل، نزل بعضنا من سيارته وأنا واحد منهم في محاولة لفك العقدة التي شربكها صوت الإنذار المدوي لكن السماء فجأة تحولت إلى شظايا نارية وبفضول ارتقت عيناي لنظر ما يحدث لو لا أني حسبت أن تناثر الشظايا النارية تتجه نحوي في لحظات لا أعرف هل اختفي في السيارة أم تحتها أم أركض أبحث عن مخبأ... ولعل هذا هو حال الآخرين في ذلك الموقف.
بفعل التطبيقات الإلكترونية التي أنتجها أبناؤنا وبناتنا مرت فترة الحظر ومنع الخروج بسلاسة إلى درجة أن اصبحنا اليوم قادرين على أن نعيش بشكل مختلف بمجرد قرار يصدر من وسائل الإعلام دون ربكة أو حيرة أو تعطيل، كل ما تحتاجه الحياة اليومية المعيشية والعملية متاح بجهاز أصغر من الكف تحضر فيه جلسة القضاء وتقدم فيه مستندات التوثيق وتواصل التعليم وبالمختصر «اكترنا» الوباء ونقلنا من تلك الخيرة إلى تحميل التطبيقات الإلكترونية وقضاء الحوائج من البيت وربما لطول الوقت نسي البعض كيف يلبس الشماغ ويضبط العقال.
بعد مرور عامين عادت الأسر لاستئناف الاجتماع العائلي، وحين التقيت بأفراد الأسرة الكريمة سرّني أن أرى اليقظة الواعية بتجاوز مناطحة الرؤوس والاكتفاء بالمصافحة أو التحية عن بعد، لقد استبدلت تلك التحية الحركية التي كانت تخفي نظرات العيون للعيون إلى المواجهة بين عيون المتقابلين بالتحية فتشعر بمكنون الذات ساطعة في حدقة العين التي تبعث التحية والسلام بأصدق تعبير، هذه النقلة النوعية في العادات الاجتماعية التي تناغمت وانسجمت مع حركة الحياة وأدوات العصر قدمت البرهان على حيوية مجتمعنا وقدرته المرنة في الانتقال من التخلف إلى التمدن وإن كان في كل الأحوال متحضر بقيمة وهويته الأصيلة.
العطاء والأخذ كفتا ميزان الخيرية في الإنسان، فإن رجحت كفة العطاء كان الإنسان أكثر إنسانية وإن رجحت الأخرى كان العكس، وأتساءل كيف يمكن أن نفعل هذه الفلسفة الإنسانية في النفس وهل نحن بحاجة إلى صاروخ أو وباء لتنشيط هذه الغريزة في النفوس وترجيح العطاء على التملك؟
في اجتماعنا الأسري الأخير ملأتني السعادة وأنا استمع لكريم العطاء من الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله اليمني الذي أسرّ لي أنه أعطى العائلة وقف عبارة عن عمارة في قلب الرياض ليكون جزءاً منها لاجتماعات الأسرة والباقي يستثمر ويكون إيراده للدعم والمساندة، وأزعم أن في كل أسرة في مجتمعنا المسلم العربي السعودي معطاءين كرماء، وأقول وبكل صدق إن كينونة العطاء هي صفة الكبار، وأن هؤلاء هم فخر واعتزاز مجتمعنا المتأصل بالرحمة والمودة، عسى أن تكون لهذه السطور أثر في نفوس الآخرين لدعم وترقية كينونة العطاء في النفوس لتكبر، والتي بتوسعها وانتشارها تتسع وتنتشر روح المحبة والإنسانية كميزة تضاف إلى ما يتصف به مجتمعنا في كريم عطائه ومرونته في التناغم والانسجام مع حركة الحياة وأدوات حركة عصرها، تلك التي كلما أخذت من طبيعتنا الاعتيادية أعطيناها أكثر من مخزون فطرتنا السليمة النقية.